الأمّة الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين الميلادي

الأمّة الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين الميلادي

 

 

الأمّة الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين الميلادي

 

الدكتور محمد الشيخ محمود صيام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إهداء

إلى أبناء الأمة الإسلامية جميعاً - حاكمين ومحكومين - في مختلف الأقطار; أقدم هذا البحث المتواضع; صيحة تحذير واستنهاض وإنذار.

وإلى الذين تقض مضاجعهم أحوال أمتهم ; ويؤرق نفوسهم ما يواجهها من تحديات داخلية وخارجية; وهي تستقبل القرن الميلادي الحادي والعشرين - أقدم بحثي هذا; عساهم يستفيدون منه في بعض الميادين..

وإلى الذين تشرق نفوسهم وتنشرح صدورهم سعادة وفرحاً; بالومضات المضيئة في الأجواء القاتمة; التي تتلبد بها سماء الأمة; فيعملون على زيادة تلك الومضات، والتخلص من تلك التلبلدات - أقدم هذا البحث دعماً متواضعاً لتلك المجهودات.

وإلى الضباط والجنود، والفيالق والحشود; التي تقف على أهبة الاستعداد; لتأمين الحدود وحماية البلاد; من كل غاز أو دخيل; أو متواطئ أو عميل - أقدم هذه الكلمات; مسجلاً بها اعتزاز الأمة بما يقدمونه من تضحيات، وما يبذلونه من دماء غاليات..

وإلى جميع أبناء الأمة; من الساسة والمثقفين، ومن التجار والصناع والاقتصاديين، ومن الكتّاب والمؤلفين والإعلاميين، ومن الدعاة والوعاظ والخطباء والموجهين، ومن المعلمين والتربويين والفنيين والمفكرين - الذين يعملون جميعهم - لتستعيد أمتهم الإسلامية مكانتها - كما كانت - في القمم; وتتبوأ منزلتها الرفيعة بين الأمم - إلى كل هؤلاء أقدم هذا البحث المتواضع; عسى أن يكون مشروع أهداف منشودة، وغايات مقصودة.. وعسى أن يكون - في ذات الوقت - منهاج أعمال دؤبة، لتحقيق آمال مطلوبة.

دكتور / محمد الشيخ صيام

تقديم

إن التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية; وهي تستقبل القرن الحادي والعشرين الميلادي; تحديات متشعبة، ولا يتسع المجال لإحصائها أو استقصائها. لأنها منتشرة في الداخل وفي الخارج. وكنت أطمع في أن أخصص لكل منها ما يستحقه من دراسة، ولكن المجال أضيق من أن يحقق لي ما أطمع فيه. ولذا اقتصرت الحديث على بعض الداخلي منها، واختصرتها في مباحث خمسة، هي مكونات الفصل الأول من هذا البحث. ومطالعها:

(1) التفرق والاختلاف.

(2) التناحر والخلاف.

(3) البطالة والفقر والجوع.

(4) الوهَن والعمالة والخيانة.

(5) التبذل والانحلال الخلقي.

ثم أمعنت النظر في أحوال الأمة; فوجدت أنها ما إن تحاول أن تتخلص من التحديات الداخلية التي تواجهها; حتى تصطدم بتحديات خارجية; لا تقل خطورة عما بها من هموم بل تزيد.

 

 فهناك الأطماع والجشع والتآمر والغزو الثقافي وغير ذلك من التحديات. وقد انتقيت منها بعضها; وصغت الحديث عنها في خمسة مباحث أخرى; هي مكونات الفصل الثاني من هذا البحث، وعناوينها:

(1) الأطماع في ثروات الأمة ومواقعها.

(2) التآمر على الأمة وحصار شعوبها.

(3) الأحقاد الصليبية والممارسات الشيطانية.

(4) الجشع الصهيوني وميادين الصراع معه.

(5) الغزو الثقافي.

على أن الأمة الإسلامية - والحمد للّه - لا تعدم ومضات مضيئة في أجوائها القاتمة. وقد تحسست بعض تلك الومضات، وأفردت لها الفصل الثالث والأخير من هذا البحث. وأبرز تلك الومضات:

(1) انتصار الثورة في ايران.

(2) انتصار الثورة الإسلامية في السودان.

(3) حماس الفلسطينية وحزب اللّه اللبناني.

(4) اليقظة العربية والصحوة الإسلامية.

(5) المستقبل لهذا الدين.

وأخيراً; لخّصت بحثي هذا فيما أسميته (خاتمة المطاف).

متقدما بجزيل الشكر; للقيادة الإسلامية في الجمهورية الاسلامية في إيران; التي خصصت لمثل هذه الموضوعات مؤتمراً عالمياً سنوياً، يهدف إلى تكريس الوحدة بين الأمة الإسلامية، وبحث قضاياها المصيرية.

كما أشكر القائمين على هذا المؤتمر; على ما يبذلون من الجهود، ويقدمون من المجهود، لبلوغ الأهداف السامية من المؤتمر العالمي السنوي للوحدة الاسلامية. كما أتقدم - أيضاً - بالشكر الجزيل، للجنة العلمية، التي تتحمل دراسة هذه الأبحاث; وانتقاء المناسب منها لهذا المؤتمر الكريم. آملاً أن ينال بحثي هذا - على تواضعه - رضاها. فإن كان ذلك; فهو من توفيق اللّه سبحانه وتعالى. وإلاّ فمن جهودي المتواضعة.

وآخر قولنا: الصلاة والسلام على سيد الخلق رسول اللّه الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه وأنصاره وأتباعه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

وكتبه الدكتور / محمد بن الشيخ محمود صيام

صنعاء في 24 من ذي الحجة 1419 هـ. الموافق 10/4/1999م

الفصل الأول - تحديات داخلية

المبحث الأول - التفرق والاختلاف:

 نعني بالتفرق والاختلاف; هذا الذي ترسخ بين شعوب الأمة الإسلامية من اختلاف في المفاهيم والأحاسيس، واختلاف في الطباع والعادات واختلاف في نظم المعيشة ووسائل الحياة، واختلاف في اللغة واللهجات واختلاف حتى في الأهداف والغايات. مما نتج عنه تفرق الآراء والسياسات، واختلاف المواقف وبعثرة الجهود.

وذلك في زمن تتجمع فيه الشعوب مع بعضها البعض، رغم اختلاف أصولها وعاداتها، وطباعها ولغاتها، ومشاربها ومعتقداتها، تتجمع في وحدات معيشية، وفي دول قوية، تستجلب مهابة الناس، وتفرض احترامها عليهم. كما تحمي شعوبها من امتهان الآخرين، وعدوان المعتدين، وتوفر لهم المجتمع المتعاون، والحياة الكريمة.

وانظر - على سبيل المثال - إلى الصين كدولة، أو إلى أوروبا كاتحاد، وقارن بين ماهو حاصل في هذه وتلك من التقارب والائتلاف، وبين ماهو حاصل بين شعوب الأمة الإسلامية من تفرق واختلاف، على تشابه في اتساع الرقعة الجغرافية، وتقارب في عدد السكان، بين طرفي المعادلة.

إن مقارنة كهذه; تصيب نفس المسلم بالصدمة والاكتئاب. ففي الصين التي نتقارب معها في عدد السكان، نظام واحد، ودولة واحدة، تنافس أقوى دول العالم قوة واقتصاداً. وعندنا نيّفٌ وخمسون دولة ونظاماً. أما قدرتنا الاقتصادية فهي تنوء من هذا التفرق والاختلاف، وأما موقعنا بين دول العالم; فهو لا يخفى على أحد. وصدق الشاعر الذي يقول:

في الصين مليارٌ ونحنُ كملثهم *** عدداً ولكن أين نحنُ وأينَ هُم

أمــا اقتصــادُ بلادنـــا فمصيبة *** وشعـــوبنا يخرُجـن من همّ لهم

 أما في أوروبا; فهناك عشرات الدول، وعشرات الأنظمة، وعشرات الأقطار، ولكنها قد أزالت ما بينها من حواجز، وطمست ما بينها من حدود، وأصبح أي مواطن أو زائر أو مقيم; ينتقل من قطر إلى آخر، دون أن يعترضه مُعترض، أو يسائله مسائل.

كنت أزور الجاليات الإسلامية في أوروبا، في سبتمبر من العام الماضي (1998م)، وكذلك في رمضان الماضي (1419هـ)، ونزلت في مطار أمستردام بهولندا، وانتقلت منه بالسيارة إلى بلجيكا، ومن ثم إلى ألمانيا، ومنها إلى فرنسا، ومن ثم إلى النمسا، ومنها إلى إيطاليا، وذلك جيئة وذهاباً، ولعدة مرات، وبين مختلف المدن،دون أن يسألني سائل عن هوية أو عن جواز سفر. وتذكرت حالنا في العالم العربي والإسلامي، وكيف أن المواطن لا يستطيع أن ينتقل من قطر إلى قطر، بل من مدينة إلى مدينة، دون أن يتعرض لسيل من الحواجز أو حرس الحدود أو نقاط التفتيش. مما يغصُّ به البال، ويسوءُ به الحال.

ولم يك ما أحس به من هم; أو أغرق فيه من غم، يرتفع عني إلا حين أتذكر قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)- فما أخرج الإمام البخاري من حديث خبّاب (رضي الله عنه) قال: «واللّه ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من المدينة إلى حضرموت; لا يخاف إلا اللّه عزوجل; والذئب على غنمية; ولكنكم تستعجلون».

ونبوءة سيد الخلق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) هذه; تلقي على نفوس المسلمين المكتئبة ظلالاً من الطمأنينة والأمل ذلك أنها قد تحققت في يوم من الأيام، والتاريخ حريّ بأن يعيد نفسه، إذا عاد المسلمون إلى ماكان عليه أجدادهم الأولون; من صدق في الإيمان، ونبذ للخلاف، ورص للصفوف، وثقة في بعضهم البعض، وإيثار لبعضهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وما إلى ذلك من دلائل الإيمان الصحيح.

ولقد شدد اللّه - جل شأنه - على وحدة الأمة الإسلامية بقوله - في سورة الأنبياء (آية 92): (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). وقوله - أيضاً - في سورة المؤمنون (آية 52): (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).

إن هذا التشرذم والتشتت والاختلاف - الذي تعيشه أمتنا - سيكون أمامها في القرن القادم - واحداً من العراقيل الكثيرة، والتحديات الخطيرة; مالم يلتزم أبناؤها بقول رب العالمين: (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا، واذكروا نعمة اللّه عليكم، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها، كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تهتدون) ([1]).

المبحث الثاني - التناحر والخلاف:

 ومما لاشك فيه أن هذا المبحث يختلف عن سابقه، فلم يقتصر الأمر على التفرق والاختلاف - كما هو الحال في المبحث السابق - ولكنه تطور إلى تنافر، وتناحر واحتراب، وهذا من الخطورة بمكان. فإذا كان التفرق والاختلاف; يعبر عنهما بالتلاوم والتهاجي في الخطب والتصريحات، والنشر في الصحف والإذاعات، وغيرها من وسائل الإعلام، فإن التناحر والخلاف ; يعبر عنهما بالتنازع والاقتتال بمختلف أنواع الأسلحة.

 

 وكأن المسلمين قد جهلوا قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) (فيما أخرج الإمام مسلم، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «من حمل علينا السلاح ; فليس منّا، ومن غشّنا فليس منّا». أو كأن المسلمين تناسوا قوله(صلى الله عليه وآله): «كل المسلم على المسلم حرامٌ، دمه وماله وعرضه».

ولست معنياً - هنا - بضرب الأمثلة; ولكن ضربها قد يفيد. ففيه من العبر والعظات; ما قد يرد القوم إلى جادة الصواب. بل إنه من المفروض على المسلمين البحث في ذلك، والعمل على إيجاد أنسب الحلول له. وذلك التزاماً بأمر اللّه - جل شأنه - في قوله في كتابه العزيز: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن اللّه يحب المقسطين) ([2]).

وما أكثر الطوائف المسلمة التي يقاتل بعضها بعضاً في هذه الأيام، ويحرص بعضها على إفناء البعض الآخر، ويقف المسلمون عاجزين عن الإصلاح بينها، بل إنهم عاجزين عن تحديد التي تبغي على أختها من تلك الفئات، فإذا هم حددوها; فهم أعجز من أن يقاتلوها حتى تفيء إلى أمر الله.

خذ مثالاً على ذلك الصراع بين الأشقاء في الجزائر، أو في الصومال، أو في أفغانستان; وانظر كم استنفذ هذا الصراع من مقدرات الأمة، ومن ثروات الأمة، وكم أفنى من شباب الأمة وأطفالها ونسائها وحتى من شيوخها المسنين، وكم خلف من الجرحى والمصابين والمعاقين.

وخذ كذلك الخلاف بين أبناء المدن وأبناء الصحراء في المغرب العربي، وهم أبناء شعب واحد، وأبناء عقيدة واحدة، وأهل رقعة من الأرض كذلك واحدة. لقد اختلفوا على أنفسهم، وتناحروا مع بعضهم حتى وصل الحال إلى أن يتدخل الأعداء للإصلاح بينهم، وهو إصلاح لا يختلف عما تقوم به الذئاب حين تُنتدب للإصلاح بين الغنم.

وخذ أيضا ما يطفو على السطح من عداوات بين أبناء الشعبين الشقيقين، في قطر وفي البحرين، أو ما يجري من احتكاكات بين الأشقاء في الجمهورية الاسلامية في إيران; وبين إخوانهم في دولة الإمارات العربية المتحدة - كل هذا وذاك بسبب الاختلاف على ملكية بعض الجزر في الخليج الفارسي.

وخذ ما جري بين العراق وأهل الجزيرة. حين اعتدى المسلم على أخيه المسلم، فسفك دمه، وسلب ماله، وهتك عرضه، غير عابىء بقول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلبهه ومن كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربه من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»([3]).

وخذ - أخيراً - ما استشرى بين العرب والاتراك من العداء، على خلفية الأحلاف التركية الصهيونية تلك الأحلاف الأمنية الشيطانية; التي عُقدت بين قوم يفترض أنهم مسلمون من أقدم العهود، وبين أشد الناس عداوة للذين آمنوا وهم اليهود. وغير ذلك مما يطول الشرح فيه.

بل إن الاتحادات والمحاور، التي قامت بين بعض أقطار العالم العربي والإسلامي، قد خفت صوتها، وفتر حماسها. ويحاول قادتها بعث الدماء في عروقها من جديد، ولكن بجهود مضنية وآمال خافتة، لأن الهمم فاترة، والعزائم خائرة.

ومما يجدر ذكره في هذا المجال; ما انشغلت به الصحافة العربية من حديث حول الاتحاد المغاربي، ومحاولة بعث الحياة في أوصاله. وهو الاتحاد الذي يجمع بين كل من: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ففي عددها الصادر بتاريخ 12/2/1999 ; خصصت مجلة (الحوادث) اللبنانية الأسبوعية صفحتها الثانية والثلاثين للحديث عن ذلك الاتحاد تحت عنوان: «عزم تونسي راسخ على تفعيل اتحاد المغرب العربي». وفي عددها الصادر بتاريخ 16/3/1999م أبرزت صحيفة (السفير) اللبنانية اليومية في صفحتها الخامسة عشرة خبراً بعنوان: «أول زيارة للرئيس التونسي إلى المغرب; محاولة لانتشال الاتحاد المغاربي».

وتكفي هذه الإشارات لكي تبرز بوضوح; بعض ألوان التناحر والخلاف; الذي ستدخل به الأمة الإسلامية القرن الميلادي القادم.

المبحث الثالث - البطالة والفقر والجوع

إن الزيادة في أعداد السكان في المجتمعات الإسلامية; من غير تخطيط دقيق مسبق، لاستيعاب تلك الزيادة; استيعاباً وظيفياً واقتصادياً وإسكانياً وصحياً وتعليمياً; أي استيعاباً معيشياً بشكل عام - يجعل من تلك الزيادة عبئاً على تلك المجتمعات، بدلاً من أن تكون لها من مصادر الثروة والنماء.

وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى تحديد النسل - كما يقولون - وما كان لي أن أفعل ذلك والنبي(صلى الله عليه وآله) يقول - فيما أخرج أبو داود والنسائي - كل في كتاب النكاح من سننه، من حديث معقل بن يسار - (رضي الله عنه) أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: - والنص لأبي داود -: «تزوّجوا الودود الولود; فإني مكاثر بكم الأمم».

أما الإمام أحمد; فقد أخرج في مسنده; عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) عنه قال: كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)يأمر بالباءة (أي الزواج)، وينهى عن التبتل (وهو الانقطاع عن الدنيا; وعدم الزواج - بحجة العبادة) نهياً شديداً، ويقول: (تزوجوا الودود، إنّي مكاثر الأنبياء يوم القيامة).

فهل يجوز لي أو لغيري من المسلمين - بعد هذا - أن يدعو إلى تحديد النسل؟! إن الذي ندعو إليه بشدة وحماس; هو اتخاذ الإجراءات الاقتصادية المناسبة; لتأمين حياة كريمة للأجيال القادمة.

فمساحات أرضنا; وأهمية موقع بلادنا; وكثرة خيراتنا وثرواتنا، وقدرة شعوبنا على الإبداع،تدعو إلى زيادة النسل لا إلى تحديده. ولكن تخلفنا الاقتصادي; وسوء استغلالنا لثروات بلادنا; وجهلنا بقدرة شعوبنا; وعدم تقديرنا لأهمية مواقعنا الجغرافية على الخريطة العالمية; وعدم التخطيط لمستقبل أجيالنا أو حتى لحاضرها، هو مايجعل مجتمعاتنا في انشغال مستمر بلقمة العيش; وشربة الماء; وقرص الدواء.

فإذا أضفنا إلى ذلك الكوارث الطبيعية; من تصحر وجفاف في بعض الأقطار; أو من عواصف وفيضانات في بعضها الآخر; حيث يجف الزرع وينضب الضرع في الأولى; وتدمر المزروعات والأشجار في الأخرى - فإن الجو يزداد قتامة والحال يزداد سوءاً، وهو ما يجعل البطالة والفقر والجوع; السمات البارزة في مجتمعاتنا، وهو - أيضاً - ما يشغل بال الاقتصاديين والسياسيين في أمتنا على الدوام.

وبالإطلاع على الأخبار الاقتصادية في كثير من الأقطار الإسلامية ; يصاب المسلم بالصدمة تلو الصدمة مما يعيشه اقتصاد بلادنا من حالة مأساوية. خذ مثالا على ذلك دولة إسلامية في آسيا كبنجلادش مثلا; ودولة إسلامية في أفريقيا كالسودان، وانظر إلى مافعلته بهما الفيضانات والأمطار في الموسم السابق، وخذ في المقابل دولاً إسلامية في أفريقيا وفي آسيا أيضاً - وأكثر دولنا في هاتين القارتين; خذ الصومال أو العراق أو بلاد الشام وانظر ما يفعله بأهلها الجفاف أو التصحر أو قلة المياه.

إن هذه الكوارث الطبيعية - على اختلاف بينها - تجعل المسئولين في تلك البلاد يتداعون ويدعون إلى نجدة المنكوبين وإغاثة المتضررين. ففي بنجلادش سارع رئيس الدولة ورئيسة الوزراء بـإصدار الأوامر للوزراء بضرورة التوجه بأنفسهم إلى القرى وتجمعات السكان في كل مكان من البلاد، للتعامل مع آثار الفيضانات والإشراف على عمليات نجدة المواطنين المتضررين وإغاثتهم، بدلاً من أن ينشغلوا فيما لا يفيد من الأمور التي ينشغل بها الساسة في العادة. (انظر صحيفة الرأي الأردنية اليومية عدد 7/9/1998م).

وفي السودان يوجه المسئولون نداءات ملحة; لتأمين معونات عاجلة لنجدة ضحايا الفيضانات ومواجهة آثار الكوارث; وهي من الأمور التي تتكرر في البلاد السودانية. (انظر صحيفة الدستور الأردنية اليومية عدد 6/9/1998م، وانظر كذلك صحيفة الرأي الأردنية اليومية عدد 7/9/1998م).

وفي الفترة ذاتها تطلب الصحافة في الأردن من المسؤولين; التدخل السريع; لوقف المجاعة التي تجتاح أكثر من 11% من السكان هناك - فيما تشير إليه تقارير الباحثين المتخصصين بالفقر المدقع مرة، وبالمجاعة مرة أخرى، وكأن الأردن لا يكفيه من الهموم الاقتصادية; ما يسببه له الصهاينة المجرمون، من قطع المياه عنه، أو تلويثها له، أو سرقة حصته منها. (انظر صحيفة الدستور الأردنية اليومية في عدديها الصادرين بتاريخ 6، 7 من سبتمبر / أيلول 1998م).

والعجيب أن ما يصيب بلادنا من الكوارث; يصيب غيرها من بلاد العالم، بل لقد كان الحال في العام المنصرم غاية في الشدة، وذلك حين اجتاحت الأعاصير والسيول والفيضانات أقطاراً عالمية كثيرة، مثل أمريكا والصين والكوريتين واليابان وغيرها من بلدان العالم. لقد اجتاحت الفيضانات والأعاصير مناطق شاسعة من تلك البلاد، بل لقد اجتاحت ولايات بأجمعها، حيث هدمت السدود وتساقطت الكباري، واقتلعت الأشجار وتعطلت وسائل المواصلات، وانجرفت المنازل وانهارت البنايات، ودمرت المحاصيل والمزروعات، ولكننا لم نسمع الشكوى التي تضج بها بلادنا في مثل هذه الحالات، وذلك لأن الاستعدادات الضخمة التي تعدها تلك الأمم لمواجهة الكوارث، وسرعة التعامل معها - تخفف من وطأتها، وتسرع في معالجة آثارها قياسا بما يحدث في بلادنا، الأمر الذي يجعلنا نضج بالشكوى.

على أن الصورة ليست بهذه القتامة في كلا بلادنا - والحمد اللّه - فهناك من شعوبنا من لديه الوعي الاقتصادي; والذي يحصن به بلاده ضد النوازل والخطوب، بل ولديه القدرة - كذلك - على التعامل حتى مع المؤامرات الخسيسة، التي يحيكها أعداء الأمة ضد اقتصادها.

كنت أزور الجمهورية الإسلامية في إيران - ذات سنةـ فأثلج صدري ما رأيته وما علمته ; من عودة الاهتمام بصناعة السجاد; الذي بزّ فيه الشعب الإيراني المسلم - الصنّاع في مختلف أنحاء العالم، بل إن الجودة العالمية للسجاد،; تقاس بقدرته على محاكاة السجاد الإيراني. قال محدثي - وهو أحد المطلعين على الأمور: لقد ترسخت لدينا القناعة بأن الثروة البترولية لن تدوم، وعليه فلابد من تنويع مصادر الدخل، والسجاد هو من أهم تلك المصادر. هذا فضلاً عن الصناعات الأخرى كصناعة السيارات وغيرها.

وإيران دولة بترولية - كما هو معروف - ولكن الاعتماد على الصادرات البترولية غير مأمون العواقب إذ يتلاعب أصحاب الدولار - كما هو الحال في هذه الأيام - بكمية الصادرات والأسعار، فليت صناع القرار في عالمنا الإسلامي كله; يتنبهون إلى هذه الأخطار.

نقطة مضيئة أخرى في الأجواء الاقتصادية لبلادنا; وهي أن مصر - كما تواترت الأخبار - تتوقع في هذه السنة; نموا في الصادرات غير البترولية; يربو - إن شاء اللّه - على خمسة وعشرين بالمائة. (انظر صحيفة الحياة اللندنية اليومية - عدد 25/3/1999م).

ولذا فإن على شعوب أمتنا الإسلامية; ألا يدخلوا القرن الحادي والعشرين الميلادي من البوابات البترولية، ولا من بوابات الإغاثة الإنسانية، ففي الأولى مخاطر محدقات، وفي الثانية مذلة وإهانات. وعليهم أن يدخلوا ذلك القرن من البوابات الاقتصادية الأخرى، كالصناعية والتجارية، والزراعية والسياحية وغيرها.

إن العمل على تقوية قدراتنا الصناعية والتجارية، وإن التعاون الصناعي والتجاري بل والزراعي; بين أقطار العالم الإسلامي; قد أصبح من الضرورات الملحة، حتى لا ندخل القرن الحادي والعشرين وموارد بلادنا من المواد الأولية نهب للآخرين، ونحن وأمتنا وشعوبنا سوق للمنتجين والصانعين.

المبحث الرابع - الوهن والعمالة والخيانة:

إن الوهن الذي أصاب أكثر أبناء الأمة الإسلامية - حاكمين ومحكومين - وهن يسر الأعداء، ويذهل الأصدقاء، ويحير العقلاء. فالأمة لاتنقصها الأعداد الكبيرة ولا الأموال الكثيرة، ولكن تنقصها الهمم القوية، والنظرات السديدة، والعزائم الشديدة. ينقصها التفاهم والالتئام والائتلاف، كما ينقصها وضوح الرؤى وتحديد الأهداف، كل ذلك بسبب الوهن الذي يسرى في مفاصلها بشكل سريع، كما تسري السموم الناقعات في الجسم اللديغ.

وقد تنبأ سيد الخلق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بمثل ذلك حين قال - فيما أخرج أبو داود في كتاب الملاحم من سننه; عن ثوبان (رضي الله عنه): قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «يوشك الأمم أن تداعي عليكم; كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللّه في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول اللّه! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت».

وهاهي ذي الأمم في هذا الزمان، تجتمع على الأمة الإسلامية; كما يجتمع الجياع المرملون على الطعام; مصداقا لنبوءة سيدنا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). يجتمعون علينا اجتماع الضواري الجائعات على الفريسة; فينهشون من أرضنا ومن خيراتنا، ويلغون في عرضنا وفي مقدساتنا، هذا ينهش من هنا; وهذا ينهش من هناك ولا يوجد بين أبناء الأمة من يواجه أولئك الدخلاء; فلا نامت أعين الجبناء.

ورحم اللّه أزمنة مضت; كان إذا اعتدي على شبر من أرض المسلمين; سلت السيوف من الأغماد، ونفرت كتائب الإيمان من مختلف البلاد. كان إذا اعتدي على ثغر من الثغور; غلت نفوس المسلمين كما تغلي الملاء من القدور، واندفع المقاتلون منهم; يصدون الأعادي بالجماجم والصدور. كان إذا اعتُدي على واحدة من فتيات المسلمين; أشرعت في - سبيل اللّه - الرماح، وقعقع - في أيدي الرجال - السلاح. وصفحات التاريخ متخمة بمثل هذه الاعتداءات الهمجية، ولكنها مضيئة أيضا وفي ذات الوقت - بالردود المناسبة القوية.

قدمت امرأة من العرب إلى سوق يهود بني قينقاع - وكانوا أشجع يهود وأقواها، وكانوا صاغة وتجار مجوهرات - فباعت المرأة في سوقهم جلباً من غنمها، ثم جلست إلى أحد صاغتهم وهي متنقبة على عادة الحرائر من بنات العرب في ذلك الزمان، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فتضاحك القوم عليها، وصاحت هي مستنجدة.

ولم يكن في الساحة إلا مسلم واحد، ورغم ذلك فقد انقض على الصائغ اليهودي فقتله، واجتمع اليهود على المسلم فقتلوه. ثم نفر المسلمون لمحو العار، فأجلو بني قينقاع كلهم - في النهاية - عن تلك الديار([4]).

تُرى كم مسلمة في البوسنة والهرسك وكوسوفا; هتك عرضها الصليبيون المجرمون؟! وكم مسلمة في فلسطين وفي لبنان; اعتدى عليها الصهاينة الحاقدون؟! ورغم ذلك لم تظهر في المسلمين المروءة الإسلامية، ولم تتحرك فيهم غيرة أو حمية. اللهم إلا ما تجعجع به بعض إذاعاتهم ; وتهذي به بعض صحفهم من الاحتجاجات والاستنكارات التي لا تردع غاصبا أو معتدياً، ولا تحمي عرضاً ولا أرضاً.

 

 واعتدى الروم ذات يوم على أحد الثغور، وذلك في زمن المعتصم - أحد مشاهير الخلفاء العباسيين - وبالتحديد سنة اثنتين وعشرين ومائتين للهجرة النبوية الشريفة، وغنم الغزاة من ثروات المسلمين، وأسروا منهم وسبوا كثيرين، فصاحت صبية مسلمة قائلة: «وامعتصماه»، ووصل النداء إلى المعتصم; فأقسم ألا يسوغ له طعام أو شراب حتى ينتقم من الغزاة، ويستنقذ مافي أيديهم من الغنائم والأسرى والسبايا، ويطردهم إلى حيث لا يعودون. وفعلاً كان، والتاريخ أصدق الشاهدين، حيث جيّش المعتصم جيوشاً لم يعهد مثلها من قبل - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية: «وتجهز جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقِرَب والدواب والنفط والخيل والبغال، شيئا لم يُسمع بمثله. وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال»([5]).

وكانت عمورية هذه; أمنع بلاد الروم في ذلك الزمان، وقد فرَّ إليها القوم بعد أن اعتدوا على أحد ثغور المسلمين. ووصلها المعتصم في رمضان من تلك السنة، فحاصرها حتى فتحها، واستنقذ أسرى المسلمين منها، وقتل من بقي من مقاتلي الروم فيها، وأمر بـإحراقها بعد ذلك. كل هذا من أجل استغاثة امرأة مسلمة قالت: «وامعتصماه».

وقد خلَّد الشاعر أبو تمام تلك الموقعة في قصيدته المشهورة، المسماة (فتح عمورية) ومطلعها:

السيف أصدق أنباء من الكُتب *** في حدّه الحد بين الجدّ واللّعب

بيضُ الصَّفائح لا سود الصحائف فـي *** متونهنَّ جلاءُ الشك والرّيب

وقد علق صاحب البحث على ذلك بقوله:

السيفُ أصـــدقُ أنباء من الكُتب *** فمـــن يجدّد هذا القول للعرب؟!

ومن يُعلّمهم أن البطولة في *** إجادة الطعن لا في جودة الخُطب

وهو تعليق ساخر ودقيق، ففي هذا الزمان كم من صائحة بـ «وامعتصماه»، أو بـ «واعرباهُ» أو بـ «واإسلاماه»; دون أن يسمع صوتها مستجيب من الأهل أو الأصدقاء; وكأن العرب والمسلمين أمواتٌ غير أحياء؟! وصدق الشاعر الذي يصور ذلك بقوله:

ربُّ وامعتصمـــاهُ انطلقـــت *** مـــلء أفواه الصبايا اليتَّم

لا مســـت أسماعهـــم لكنّها *** لـــم تُلامس نخوة المعتصم

 إن هذا الوهن - بلا شك - ناتج من حب الدنيا وكراهية الموت، الأمرين اللذين أصابا الأمة الإسلامية في أخطر مقاتلها. وليت الأمر يقتصر على ذلك; إذن لهان علاجه بمنشطات الهمم ومقويات العزائم ولكنه تعداه إلى ممالأة الأعداء والعمالة الصريحة لهم في هذا الزمان، مما يعتبر خيانة للأمة وخيانة للأوطان.

وإلا فبم يُفسر التنازل للمحتلين عما احتلوه من فلسطين - على سبيل المثال؟!; وبم يُفسر الاعتراف بكيانهم الدخيل على رفات أجدادنا من المجاهدين والشهداء؟! وبم يُفسر قصر التفاوض معهم على بعض أجزاء من فلسطين، كانت تعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة؟! علما بأنهما لا يشكلان سوى 20% من أرض فلسطين، والصهاينة يحتلون أكثرهما. ولن يحصل الفلسطينيون على أكثر من 4% من فلسطين - هذا حين تجري المفاوضات في أحسن حالاتها بالنسبة لهم. فهل هناك عمالة أوضح من هذه العمالة؟! وهل هناك خيانة أصرحُ من هذه الخيانة؟!

إن الذي جرى من اتفاق عُرف - فيما بعد - باتفاق (أوسلو) بين الإسرائيليين وثلة من الفلسطينيين بقيادة (ياسر عرفات)، ثم وقع عليه في البيت الأبيض بواشنطن، في الثالث عشر من شهر سبتمبر / أيلول سنة 1993م، لا يمكن أن يطلق على من قاموا به وشهدوه إلا خونة وعملاء.

إن أعداء الإسلام والمسلمين; ما كان لهم أن يعربدوا في بلادنا; وأن تغزو أساطيلهم مياهنا وأجواءنا وأن ينهبوا خيراتنا، ويدنسوا مقدساتنا; ما كان له أن يفعلوا ذلك وهم مطمئنون وآمنون; لولا ما يحصلون عليه من تنازل بعض المهزومين، وعمالة بعض المتنفذين، وخيانة بعض حكام العرب والمسلمين.

المبحث الخامس - التبذل والانحلال الخلقي:

إن الأسى يعتصر قلوب المخلصين من أبناء هذه الأمة، لأن الكثيرين من إخوانهم قد غرقوا فيما يغرق فيه العالم اليوم; من الآسن الأخلاقي، والعطب الاجتماعي. فالمجتمعات الشرقية المختلفة; والمجتمعات الغربية المنحلة; لم يعد للحياء ولا للشرف معنى في قواميسها اللغوية، أو في معاجمها الحياتية. فقد تبذلت النساء والرجال، وانحل الشباب والفتيات، وأصبح الذي يحكم حياة الجميع هو حيوانية الغابات.

وليس أدل على ذلك من هذا العري النسائي البهيمي; الذي يعم بلاد الشرق والغرب، وتحاول أن تقلده بعض بنات العرب والمسلمين; وكأن الآية الكريمة التي تدعو إلى الحشمة والآداب، وتأمر المسلمات بلبس الحجاب; كأنها غير مفروضة التطبيق; في زمن الجهل العميق. يقول رب العالمين لرسول الكريم(صلى الله عليه وآله): (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ)([6]).

إن هذا العري الحيواني; هو الذي يصيب المجتمعات اليوم في الشرق والغرب; بالإنحلال الأخلاقي، والتصرف السوقي. وهو الذي يغري الرجال والنساء - بالسقوط في حبائل الشيطان، وممارسة ماقد يترفع عن ممارسته الحيوان.

وليس أدل على ذلك من الفضيحة التي جرت على أعلى المستويات في أمريكا ; التي تعتبر مثالاً للحضارة الغربية، حيث سقط الرئيس هناك إلى الدرك الأسفل من الأخلاق البهيمية. وذلك حين كان يخون نفسه وزوجته، وبيته وأسرته، وبنته وعشيرته، ومجتمعه وأمته - مع فتاة ساقطة; كانت تتدرب في بيت الرئاسة المعروف بالبيت الأبيض، الذي لا يعرف من البياض إلا اسمه فقط، أما تاريخه فهو ملطخ بالسواد.

وكأن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان يعني القوم مباشرة بقوله الشريف - فيما أخرج الإمام البخاري من حديث أبي مسعود الأنصاري (رضي الله عنه) - قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «إن ممّا أدرك النّاس من كلام النبوّة الأولى إذا لم تستحى فاصنع ما شئت».

وقد أعجبتني كلمات كاتب الصفحة الأخيرة في مجلة (الوسط) اللندنية الأسبوعية، في عددها الصادر بتاريخ 15/3/1999 م حيث قال: «كان بيل كلنتون يبدي قصر نظر سياسياً في بعض مؤتمراته الصحفية، إلا أنني وجدت بعد علاقته مع مونيكالوينسكي ; أنه يعاني كذلك من قصر بصر، بالإضافة إلى التقصير الأخلاقي».

ومما يحز في النفوس الأبية; أن يكون هذا النموذج الأخلاقي الغربي الساقط، هو النموذج الذي ينبهر به الكثيرون من أبناء أمتنا، فيحاولون محاكاته وتقليده. وكأنهم يجهلون أو يتجاهلون قول سيد الخلق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) - فيما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة(رضي الله عنه) (والنص للبخاري) أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «الإيمان بضع وستون شعبة; والحياءُ شعبة من الإيمان».

إن العالمين العربي والإسلامي مقدمان على تقليد هذه النماذج الساقطة; مالم يتدارك المصلحون الأمور لأن مايدور في كثير من الأفلام والمسلسلات العربية والإسلامية ; يشجع على هذا السقوط ويدعو إليه. ولولا أن هناك بعض النقاط المضيئة في هذه الأجواء القاتمة; لوجب أن نقرأ الفاتحة على أخلاق أجيالنا القادمة.

قال محدثي الذي أثق فيه: «إن الفيلم الإيراني; هو الفيلم الذي تستطيع مشاهدته وأنت جالس مع زوجتك وأبنائك، لأنه ليس فيه من المشاهد والممارسات; ما يخدش الحياء أو يسيء إلى الآداب. فقلت له بسرور غامر:

نحــن بالإســلام نــرقَى، فــوق آفــاق الثّريّا

حيـــن لا نـــرضى بتاتاً *** قائـــــداً إلا النبيــــا

الفصل الثاني - تحديات خارجية

المبحث الأول - الأطماع في ثروات الأمة ومواقعها:

إن المؤامرات التي تُحاك; والجيوش التي تتحرك; والاتفاقيات التي تُعقد; والمؤتمرات التي تقوم; والمفاوضات التي تجري; كلها أمور تحركها وتتحكم في مسارها - الأطماع في ثروات الأمة الإسلامية; والآمال في السيطرة على مواقعها الجغرافية. ومن أجل ذلك نفشت جيوش الاستعماري الغربي والشرقي في أرض المسلمين، في آسيا وأفريقيا على حد سواء، كما تنفش البهائم في مزروعات في الأرض الخلاء.

وإذا كانت هذه الجيوش قد انسحبت من بعض البلاد، فظن أهل تلك البلاد أنهم قادرون عليها، وأنهم مستقلون بها، فإن الاستعمار - في حقيقة الأمر - لم ينحسر عنها. ولكنه خرج من الأبواب العسكرية، لكي يدخل من الأبواب المتعددة الأخرى.

وذلك لأن لعاب أهل الشرق وأهل الغرب; لايزال يسيل طمعا في التهام ثرواتنا، واستتراف خيراتنا كما لاتزال حبائل الشياطين من الأمريكيين وحلفائهم; تلتف حول رقابنا، وتفسح المجال لأيديها الأخطبوطية لتتمكن من مياهنا وأجوائنا ومواقعنا وأرضنا.

إن المواقع الجغرافية التي تتمتع بها بلادنا، والبترول الذي تعوم عليه، والأمواه التي تتدفق في أنهارها، وركائز الأرض التي تحظى بها، والمقدسات التي لا تتكرر في غيرها; كل هذا يجعل الأمريكان وغيرهم من المستعمرين الجشعين; يستحلون - في التعامل معنا - كل محرم، ويستخدمون - في محاربتنا - كل وسيلة مهما كانت دنيئة. وذلك لإخضاع إرادتنا لإرادتهم، ولي أذرعنا لطاعتهم، ليسهل عليهم استتراف تلك الثروات، ونهب تلك الخيرات، والعبث بتلك المقدسات.

إن حرب الخليج الأولى التي أثارها الأمريكان وحلفاؤهم في الغرب; بالتآمر مع عملائهم في الشرق، كان المقصود بها تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق وإيران كليهما; ليسهل بعد ذلك ابتلاع ثرواتهما وإخضاع إرادتهما. ومن عجب أننا ندرك خطورة ذلك، ورغم ذلك نقع فيه.

ثم جاءت حرب الخليج الثانية; لتدخل الجزيرة العربية بكاملها في هذه اللعبة القذرة، وهذا الميدان الآسن، وذلك لتسهل السيطرة على قدراتنا في تلك الساحة كذلك. وقد كان للأمريكان ما أرادوا.

ولعل التآمر المستمر على الجمهورية الإسلامية في إيران، أو على سوريا أو على مصر أو على السودان لا يخرج عن هذا النطاق، بل يندرج في نفس المساق.

فالجمهورية الإسلامية في إيران; تشكل رمزاً إسلامياً مستقلاً، كما تشكل قوة للمسلمين جميعاً، بل وتشكل نموذجاً إسلامياً متنامياً نشطاً; سياسياً واقتصادياً وصناعياً وتجارياً وعسكرياً، يتطلع العالم العربي والإسلامي إلى محاكاته، وتقليد خطواته، والاستفادة من إنجازاته، وهو ما يخيف المستعمرين، ويهدد مصالح الطامعين.

أما سوريا فتشكل رمزاً للإرادة العربية الصلبة، ورمزاً على ثوابت الأمة وحقوقها ; في فلسطين وفي لبنان هذا الصمود وهذه الإرادة يهددان الكيانات المزروعة في جسم الأمة - كلكيان الصهيوني الدخيل - مما يهدد - بالتالي - المصالح الاستعمارية الأمريكية بخاصة; والغربية بشكل عام.

وكذلك الحال في مصر والسودان; فهما يشكلان ثقلا سكانيا إسلاميا يخيف الأعداء والمتربصين. ويمتاز السودان بأنه يشكل مشروعاً حضارياً إسلامياً، في قلب قارة يسيل عليها اللعاب، وتسن من أجلها الحراب. بل إن السودان نفسه هو مما يستهدفه الأعداء، لأنه المفتاح الحقيقي لتلك القارة.

أما مصر فإنها تمتاز بأنها تشكل - بموقعها الجغرافي; وثقلها السكاني، وتميزها الوطني والديني والتاريخي - تشكل موقعاً -(استراتيجياً) غاية في الأهمية والخطورة. إذ يستحيل على الغرب أن يتصل بأمم الشرق إلا عبر أراضيها، أو عبر مياهها، كما يستحيل على الأمة العربية أن تنهض ومصر بعيدة عنها.

إن الأطماع في ثروات الأمة الإسلامية، وفي مواقعها الجغرافية، وحتى في مقدساتها الدينية; يعتبر من أكبر التحديات الخارجية التي تواجهها; وهي تدخل القرن الميلادي القادم.

المبحث الثاني - التآمر على الأمة، وحصار شعوبها:

إن مظاهر التآمر على الأمة الإسلامية كثيرة ومتشعبة، ويكمن أبرزها في احتلال قطع غالية من أرضها - كفلسطين - وزرع كيانات دخيلة في جسمها - كالكيان الصهيوني - وتدمير أو تدنيس مقدساتها، كما فعل بمسجد بابري في الهند، وما يُحاك ضد القدس والمسجد الأقصى المبارك في فلسطين.

ثم يأتي مظهر آخر من مظاهر ذلك التآمر، وهو إثارة الحروب بين دول الأمة وشعوبها، كما كان في حرب الخليج الأولى والثانية، حيث فقدت الأمة في الحربين من مقدراتها العسكرية والاقتصادية والبشرية; مالا تزال تعاني من نتائجه حتى اليوم.

ثم يأتي مظهر ثالث للتآمر على الأمة; وهو فرض الحصار العالمي على بعض أقطارها، والتحرش العدواني المستمر ببعضها الآخر.

فها هو ذا الشعب العراقي يعاني من هذا الحصار القاتل، والذي لا تظهر في الآفاق بوادر لنهايته. وهو حصار ناتج عن التآمر الأمريكي البريطاني من ألفه إلى يائه. أوردت صحيفة الدستور الأردنية اليومية، في عددها الصادر بتاريخ 6/9/1998 - تصريحاً لوزير خارجية العراق يقول فيه: «لا توجد أزمة بين العراق والأمم المتحدة، لكن أميركا وبريطانيا تثيران المشاكل لإبقاء الحظر». وعلقت الصحيفة المذكورة على هذا الخبر بقولها: «يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية; تصر على إثارة الزوابع باستمرار في وجه العراق، وعلى خلق العقبات في طريق رفع الحصار المفروض عليه. يتضح ذلك من خلال الممارسات الأمريكية سواء في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وحتى مياه الخليج وداخل العراق نفسه».

وهاهي ذي ليبيا وما عانته من هذا الحصار الذي طال أمده، حتى اضطر عدد من الزعماء الأفارقة أن يخترقوه، ففي الخامس من سبتمبر من العام الماضي (1998م) وصل إلى طرابلس - بطريق الجو - أربعة من القادة الأفارقة هم رؤساء السودان والنيجر وتشاد ومالي (انظر صحيفتي الرأي والدستور الأردنيتين اليوميتين الصادرتين في 6/9/1998م). وكانت التعليقات الساخرة يومئذ تقول: «القارة السوداء تتحدى القارات البيضاء، وذلك بخرق الحظر الجوي على ليبيا».

وهاهو ذا السودان يتلقى ضربة صاروخية جوية أمريكية، بسبب الزعم الأمريكي ثبت كذبه - بأن السودان ينتج أسلحة كيمياوية.. وتبدأ التعليقات على شكل تبريرات وحقائق وسخريات; تنتشر في وسائل الإعلام تعقيباً على ذلك الهجوم الهمجي. وكانت أولى تلك التعليقات من صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية عدد 6/9/1998م حيث قال: «في محاولة لتبرير هجومها على مصنع الدواء، أميركا (تقول): السودان رفض إثبات قطع روابطه مع الإرهاب».

وفي عدد اليوم التالي من نفس الصحيفة; برز الخبر التالي: «خبراء بريطانيون يتفقدون مصنع الشفاء في السودان». وفي صحيفة (الرأي) الأردنية اليومية عدد 1/9/1998م برز الخبران التاليان: الأول هو: «مالك مصنع الشفاء يعتزم مقاضاة الولايات المتحدة»، والثاني: هو: «الرئيس السوداني يجدد دعوة بعثة دولية لتقصي الحقائق». وقد ورد نفس هذا الخبر - أيضاً - في صحيفة (العرب اليوم) عدد 10/2/1998م، حيث قال مراسلها من الرباط بالمغرب العربي: «طالب الرئيس السوداني، الفريق عمر البشير مجدداً أمس، بـإرسال بعثة دولية لتقصي الحقائق حول مصنع الأدوية في الخرطوم; الذي دمره قصف أمريكي في آب / أغسطس الماضي; للاشتباه بأنه ينتج مكونات أسلحة كيميائية».

أما آخر هذه الأخبار; فكان في صحيفة (الحياة) اللندنية اليومية عدد 10/2/1999م، وهو قولها: «خبير أمريكي يؤكد عدم وجود أدلة على أسلحة كيمياوية في مصنع الشفاء». غير أن أجمل تعليق على الموضوع كان السخرية التي أطلقها الكاتب (خالد الحروب) في صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية، عدد 6/9/1998م حين قال في عنوان مقال له في زاوية (حقائق): «فستان لوينسكي - كلينتون، ضرب السودان وأفغانستان».

ثم يأتي مظهر آخر من مظاهر التآمر على الأمة; وهو التآمر على أبرز اقتصاديات عدد من دولها، وهو النفط، بحيث وصل سعر برميله إلى أدنى مستوى، وهو عشرة دولارات للبرميل الواحد، وكان هذا السعر قد بلغ ستين دولاراً في يوم من الأيام. وهذا ناتج من تآمر الدول الصناعية الكبرى ; على الدول المنتجة لهذا المنتج الخطير (انظر صحيفة - السياسة - الكويتية اليومية عدد 15/3/1998م، وانظر كذلك; صحيفة - البعث - السورية اليومية عدد 15/3/1999م).

ولما كانت مظاهر التآمر على الأمة الإسلامية متعددة الألوان والاشكال، والمجال لا يتسع للغوص في مختلف هذه الظواهر فإن الأمر يقتضي أن أختم هذا المبحث بالحديث عن مظهر متجدد لهاذ التآمر، ألا وهو (تهمة الإرهاب).

ومما لاشك فيه أن الإرهاب - في الأصل - هو سلعة أمريكية، وهو صناعة أجهزتها المخابراتية (انظر مجلة - الوطن العربي - الأسبوعية عدد 12/7/1998م، وانظر كذلك; صحيفة (هيرالدتربيون) الأمريكية في أول سبتمبر / أيلول عام 1998م، حيث يقول الرجل في شهادته: «إن المسؤول أساساً عن الإرهاب في العالم العربي والإسلامي; هو السياسات الأمريكية« (انظر مجلة - الأسبوع العربي - عدد 7/9/1999م).

ومن أبرز ما يُضحك في الحديث عن الإرهاب; أن يتّهم بالإرهاب كل من المقاومة الإسلامية في فلسطين; بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس); والمقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة (حزب اللّه). الحركتان اللتان تدافعان عن وجود شعبيهما ضد الاحتلال السرطاني الاستيطاني الصهيوني. بل إنهما تدافعان عن شرف الأمة كلها، حين تتصديان لهذا الكيان البغيض.. ثم تتُهمان بالإرهاب.

أما أن يحتل الصهاينة فلسطين وجنوبي لبنان والجولان السورية; فلا يشار إليهم بالإرهاب. أن يمارس الصهاينة القمع والقتل والتشريد للشعبين الفلسطيني واللبناني; وأن يقوموا بهدم منازلهم وتدمير قراهم واقتلاع محاصيلهم أو حرقها; وأن تسيح قطعان المستوطنين الصهاينة الجشعين في الجولان وفي جنوبي لبنان وفي فلسطين فلا يشكل هذا في القاموس الأمريكي إرهاباً.

ان يقوم الصهاينة بمجازر ضد المدنيين العزَّل; في المسجد الأقصى المبارك، أو في المسجد الإبراهيمي في الخليل وفي أثناء صلاة المسلمين وهم في حالة ركوع أو سجود، وأن ينفذوا مجزرة قانا في الجنوب اللبناني، وهم يعلمون أن كل من في ذلك الملجأ كان من النساء والأطفال; أن يقوم الصهاينة بكل هذا وكثير غيره، فلا يتهمون بالإرهاب، بل لا يستطيع مجلس الأمن ولا هيئة الأمم أن يتخذوا ضدهم ولو قرار إدانة واستنكار; فضلاً عن المعاقبة أو الردع، لأن الاعتراض الأمريكي جاهز، ولا يتمكن أحد من اجتيازه.

كل هذا لا يعتبر إرهاباً عند أولئك المجرمين. إنما الإرهاب فقط هو إرهاب المقاومين لاحتلال الدخلاء والمدافعين عما تتعرض له بلادهم من البلاء، والواقفين في وجه ما يتعرض له أبناء شعبهم من الاعتداء.

إن التآمر الدولي على الأمة الإسلامية، وحصار شعوبها; والاعتداء عليها; يعتبر واحداً من أخطر التحديات الخارجية للأمة وهي تستقبل القرن الميلادي الحادي والعشرين.

المبحث الثالث - الأحقاد الصليبية، والممارسات الشيطانية:

 لايمكن الفصل بين ما تمارسه دول الغرب اليوم مع المسلمين; وبين الأحقاد الصليبية التاريخية. فالغرب لا ينسى الهزيمة الساحقة; التي لحقت بأجداده في حطين بفلسطين; على يد القائد المسلم صلاح الدين وإذا كان ملوك أوروبا الصليبية في ذلك الزمان; هم الذين قادوا جيوش الغزو ضد العالم الإسلامي; فإن أمريكا اليوم هي التي تتولى زعامة الصليبيين الجدد; في محاولات يائسة; وممارسات بائسة; للثأر من المسلمين.

ولعل أبرز مظاهر هذه الأحقاد; غرس هذا الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، واستمرار مده بعناصر القوة والحياة; ليظل كالشوكة الممضّة في الحلق الإسلامي، بل كالخنجر المسموم في الخاصرة الإسلامية. للتنفيس من خلاله عن الدفين من الأحقاد الصليبية.

وباستقراء نتف الأخبار في وسائل الإعلام المختلفة; يزداد الواقع الذي نلمسه ونحياه تأكداً وترسيخاً كما يزداد تدليلاً على مانقول، وذلك بالرغم مما يحاوله الأمريكان وحلفاؤهم من الظهور بمظهر الصديق - جداً - لبعض دولنا الإسلامية. ولا أجد لذلك مثلاً صادقاً إلا قول الشاعر العربي:

يعطيك من طرف اللســان حلاوة *** ويروغ منك كـــما يروغ الثعلب

وللتدليل - عملياً - على ما نقول; نستقرئ نتفاً من أخبار الصحف والمجلات العربية، وجميعا بالتأكيد معني بتلك الأمور. ففي عددها بتاريخ 2/2/1998 ; قالت مجلة (السبيل) الأردنية الأسبوعية: «في ظل حرصها على التفوق العسكري الصهيوني; الإدارة الأمريكة تزود العدو بطائرات إف 15 أي».

وفي ثنايا هذا الخبر الخطير تورد الصحيفة قول أحد القادة الصهاينة ; بأن هذه الطائرات قادرة على الوصول إلى إيران وليبيا والسودان. وهو قول له مراميه الصليبية والصهيونية في آن واحد.

وفي المقابل; نشرت مجلة (الوطن العربي) في عددها الصادر بتاريخ 14/8/1998م، خبراً بعنوان: «لا أسلحة فرنسية لسورية». ومما جاء في الخبر: «أكدت مصادر فرنسية وثيقة الاطلاع; أن فرنسا لا تنوي بيع سورية في هذه المرحلة أسلحة هجومية; كالطائرات المقاتلة، والصواريخ المضادة للطائرات، والدبابات الحديثة».

ولك أن تقارن بين هذين الخبرين، لتدرك شيئا من الحقد الصليبي; الذي ينسحب على تعامل دول الغرب الصليبي مع المسلمين في هذه الأيام. فها هي ذي - تلك الدول - تزود الصهاينة المعتدين بما يشتهون من أنواع الأسلحة; هجومية كانت أو دفاعية، وهاهي ذي ترفض أن تزود العرب والمسلمين بما يحتاجون إليه للدفاع عن أنفسهم من تلك الأسلحة، مع أن الصهاينة يأخذونها مجانا. أما العرب والمسلمون فإنهم يدفعون ثمنها من أقوات شعوبهم.

ومن أبرز مشاهد الحقد الصليبي أيضا; ما يمارسه الصرب واليوغوسلاف والروس والكروات - بمباركات أمريكية وفرنسية وبريطانية - مع المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا من ممارسات قمعية إجرامية لا تقوم بها الشياطين أنفسها.

فتقاسم أرض المسلمين في البوسنة والهرسك، وقتل عشرات الآلاف منهم، وتشريد مئات الآلاف الأخرى، والاعتداء المبرمج على أعراض عشرات الآلاف من نسائهم، وحرق القرى والمزارع في كوسوفا، وتهجير سكان الإقليم من المسلمين، وسكوت الغرب والشرق على هذه الممارسات الهمجية; بل ومباركتها - اللهم إلا من بعض الاحتجاجات والتصرفات الباهتة - كل ذلك لا يمكن تفسيره بعيداً عن الأحقاد الصليبية الموروثة.

أما الضربات التي يوجهها حلف الأطلسي - بقيادة أمريكية - للصرب في يوغسلافيا; فليست لسواد عيون المسلمين في كوسوفا.. وإذا اعتبرنا ذلك كذلك; فنحن من السذاجة السياسية بمكان. إن ما تقوم به قوات حلف الأطلسي; ما هو الإ تصفية للحسابات بين الشرق والغرب، وهو كذلك تنفيس عن الأحقاد المتأزمة بين مذاهب القوم المختلفة.

ثم إنه إيضاً; صراع على الزعامة في أوروبا; بين الأمريكان ومن يفكر في أن ينازعهم عليها. أما ممارسات الأمريكان ضد المسلمين، فلا يمكن أن تنقلب - بين يوم وليلة - إلى صداقات يخوض من أجلها الأمريكان معارك حربية; ولا يمكن أن تفسر بعيداً عن الأحقاد الصليبية التاريخية.

بل إن الممارسات الأمريكة في العالم العربي، لا يمكن تفسيرها كذلك بعيدا عن تلك الأحقاد. فالعرب لا يستطيعون حتى أن يعقدوا قمة لزعمائهم إلا بالموافقة الأمريكية البعيدة المنال. وأصدق تعبير عن ذلك ما كتبته صحيفة (الوفاق) السودانية اليومية في عددها بتاريخ 9/3/99م، تحت عنوان «قمة حائرة; بين رفض أمريكي، وخلاف خليجي، وتردد مصري».

وبهذا وذاك من الأحقاد الصليبية; والممارسات الشيطانية; تستعد الأمة الإسلامية لدخول القرن الميلادي الجديد. فهل نتنبه لهذه الأخطار ; قبل أن يفوتنا القطار أو يجرفنا التيار؟!

المبحث الرابع - الجشع الصهيوني وميادين الصراع معه:

كان ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر; مؤشراً على دخول الأمة الإسلامية في صراع وجود مع هذا المولود الخبيث. فقد ظل اليهود بعد خروجهم من مصر مع سيدنا موسى(صلى الله عليه وآله)، وذلك قبل ميلاد السيد المسيح(عليه السلام) بأكثر من اثني عشر قرناً; ظلوا أقلية متناثرة حول فلسطين، إلى أن غلبوا أهلها على بعض مدنها وقراها، فاستقروا فيها، وأقاموا لهم مملكة امتدت نيفا وسبعين سنة، كان أبرز ملوكهم فيها طالوت، ومن بعده داود وسليمان(عليهم السلام).

ثم انقسمت هذه المملكة - بعد سليمان(عليه السلام) - إلى شمالية وجنوبية، وهي في أحسن حالاتها; وأقوى آليّاتها; لم تستطع أن تبسط نفوذها على أكثر من نصف فلسطين. (انظر كتاب - اليهود أعداء اللّه وقتلة الأنبياء ص 21، 22 - وانظر كذلك كتاب - التاريخ اليهودي العام - الجزء الأول ص 248 ومابعدها).

ومما يجدر ذكره هنا; أن تاريخ بني إسرائيل مع أهل فلسطين - بل مع العرب جميعاً - في ذلك الزمان - كما هو الحال في هذه الأيام - يتسم بالجرائم والهمجية، والأحقاد والمذابح والممارسات الإرهابية، كما يتسم باللصوصية والجاسوسية في مختلف المجالات، كما يتسم بالغدر والخيانات; ونقض المواثيق والمعاهدات.

ويكفي للتدليل على ذلك; الاستشهاد بما سطرته توراتهم نفسها; من أن يوشع بن نون - القائد الذي استطاع بنو إسرائيل أن يدخلوا فلسطين على يديه; كان يقول للغزاة منهم، وهم يحاصرون مدينة أريحا الفلسطينية: «احرقوا المدينة بالنار مع كل مافيها، اقتلوا كل رجل وامرأة، وكل طفل وشيخ - حتى البقر والغنم - بحد السيف، احرقوا المدينة بالنار على كل من فيها»([7]).

وجلست أقارن بين هذه الوصية الشيطانية العدوانية الشريرة; وبين ما كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)يوصي به المحاربين من المسلمين، حيث كان يقول: «لا تغلو، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد اللّه، وسيرة نبيكم فيكم»([8]). نعم العهد ذلك العهد، ونعمت السيرة تلك السيرة.

ثم أنهى الآشوريون والبابليون وغيرهم من ملوك الفرس; الوجود اليهودي في فلسطين، وذلك في القرن السادس قبل ميلاد السيد المسيح(عليه السلام). وعاش اليهود بعد طردهم من فلسطين، وسبيهم إلى بابل (الذي حدث في سنة 586ق. م) عاشوا في مجموعات متفرقة في الشرق والغرب.. وظلوا حتى القرن التاسع عشر الميلادي; يؤمنون بأن عودتهم إلى فلسطين; ستكون على يد المسيح (عليه السلام)، الذي سيبعثه الرب - كما يعتقدون - لتخليصهم من هذا الشتات.

ولكن ذلك الاعتقاد; لم يكن يمنع ظهور حركات ومنظمات يهودية; تدعو إلى ضرورة تجمع اليهود تحت لواء واحد، وإقامة كيان سياسي لهم في أي مكان من العالم، سواء في فلسطين أو في غير فلسطين([9]).

وفي منتصف القرن الميلادي التاسع عشر; ظهر تياران بين يهود أوروبا; أحدهما ديني والآخر سياسي وكانا يدعوان - كلاهما - إلى العودة إلى فلسطين، وعدم انتظار مجيء السيد المسيح(عليه السلام). واستطاع زعماء التيار الأول; أن يقيموا أول مستعمرة في شمالي فلسطين، قرب مدينة يافا، إحدى أشهر المدن الفلسطينية، وذلك سنة 1860م.

واستطاع زعماء التيار الثاني; أن يعقدوا لليهود أول مؤتمر صهيوني عالمي; في بازل بسويسرا سنة 1897م، بزعامة تيودور هرتزل - أحد أشهر وأنشط غلاة الصهاينة في العصر الحديث - وعن هذا المؤتمر; انبثقت المنظمة الصهيونية.

وقد أُقيمت هذه المنظمة; لتنفيذ الخطوات الأربع التي اتفق عليها المؤتمرون في بازل; لتحقيق الغاية من المؤتمر. وكانت تلك الغاية هي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. كما جاء في القرار الرئيسي للمؤتمر، ونصه: «إن هدف الصهيونية; هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين; يضمنه القانون العام».

ومن أجل ذلك أقيمت المنظمة الصهيونية، وأوكل إليها العمل على تنفيذ الخطوات التالية:

1- تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

2- تنظيم اليهود; وربطهم جميعاً في مؤسسات مناسبة - محلياً وعالمياً.

3- تقوية الحس والوعي القومي عند اليهود.

4- بذل المستطاع للحصول على موافقة الدول ذات العلاقة([10]).

وكان أن نجحت هذه المنظمة الصهيونية - بالتحالف مع الغرب - في تكثيف الهجرة اليهودية إلى الديار الفلسطينية، حتى استطاعت - أخيراً - أن تقيم هذا الكيان الصهيوني الدخيل على أرض فلسطين.

والحقيقة أن دول الغرب الصليبي في أوروبا وأمريكا; كان لها التخطيط والتنفيذ والدعم لهذا الكيان في كل ميدان. لأنه يخدم المخططات والأحقاد والأطماع الصليبية في العالم الإسلامي. ولذا فإن انحياز تلك الدول واضح وصريح مع الصهاينة الغزاة المعتدين; في الصراع القائم بينهم وبين العرب والمسلمين في فلسطين.

واليوم يتسع ميدان هذا الصراع، ليخرج من فلسطين إلى بلاد العرب المجاورة وغير المجاورة للأراضي الفسلطينية، بل إنه يمتد ليشمل جميع شعوب الأمة الإسلامية.

فإن احتلال سيناء المصرية والجولان السورية وبقية فلسطين سنة 1967م; هو لون آخر من هذا الصراع. وإن اجتياح الصهاينة للبنان سنة 1928م - والإبقاء على جنوبه محتلاً - هو لون من هذا الصراع.

وإن إثارة حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران; الجارتين المسلمتين الشقيقتين; لاستنزاف قدراتهما العسكرية والاقتصادية - كما سبق أن ذكرنا - هو لون آخر من هذا الصراع، لأن البصمات الصهيونية كانت ظاهرة في التحريض على تلك الحرب.

وإن إثارة حرب الخليج الثانية، واشتراك الطيران الصهيوني فيها; وما حشده الأمريكان لممارساتهم العدوانية يومئذ - هو لون آخر من هذا الصراع.

وإن الحصار الذي فُرض على الشعوب العربية في العراق وفي ليبيا وفي السودان - وانتحال الأعذار المجوجة لهذا الحصار - هو لون آخر من هذا الصراع.

وإن التحرش بالجمهورية الإسلامية في إيران; والوقوف في وجه تطوير قدراتها العسكرية، وعرقلة تنمية مواردها الاقتصادية، ومجابهتها في الميادين السياسية الدولية; هو لون بارز من هذا الصراع.

وإن الحلف الذي أقيم أخيراً بين الكيان الصهيوني وبين النظام الحاكم في تركيا، هو لون آخر من هذا الصراع، لأن الأهداف المعلنة والخفية من هذا الحلف; تشير إلى أنه إنما أقيم ليخدم المصالح الصهيونية والصليبية ضد البلاد العربية والإسلامية.

وهكذا تتعدد ساحات الصراع بين الحلف الصليبي الصهيوني الإلحادي; وبين شعوب الأمة الإسلامية; التي تستقبل القرن الميلادي القادم; وهي تخوض هذا الصراع في مختلف الميادين. فهل ترصُّ الأمة صفوفها، وتُجرّد سيوفها; لتنتصر في هذا الصراع؟! هذا ما نصبوا إليه; ونرجو أن تجتمع أمتنا عليه.

المبحث الخامس - الغزو الثقافي:

آخر ما نحن معنيون ببحثه في هذا الفصل; هو الغزو الثقافي; الذي يمارسه مع شعوب الأمة الإسلامية ودولها منذ أمد بعيد - الثالوث المعادي لها، وهو الثالوث المكون من الصليبيين والصهاينة والشيوعيين. وهذا الغزو الثقافي; هو واحد من التحديات الخارجية الخطرة; التي تواجه أمتنا في هذه الأيام. بل يمكن اعتباره أخطر التحديات على الإطلاق.

ذلك أن التحديات الأخرى تستهدف بعض أراضي الأمة للاستيطان فيها، أو تستهدف شعوب الأمة لتكون أسواقاً لصناعات القوم ومنتجاتهم، أو تستهدف مواقعنا الجغرافية (الاستراتيجية) ; ليؤمَّن القوم - بالسيطرة عليها - طرق تجارتهم، ومواصلاتهم، وحماية ما يقيمون في بلادنا من كياناتهم ومعسكراتهم.

أو تستهدف تلك التحديات; خيرات الأمة وثرواتها; ومن نفط ومعادن وغير ذلك من مخزون باطن الأرض عندنا - وتلك هي أبرز الأهداف التي يصبو إلى تحقيقها; أولئك القراصنة الغزاة; من التحديات والعراقيل التي يضعونها أمام أمتنا وشعوبنا.

أما الغزو الثقافي; فإن الأمر معه مختلف جدا. لأن الهدف منه هو القضاء على المقومات الأساسية للأمة وذلك بالقضاء على معتقداتها وتقاليدها وعاداتها وثقافتها وموروثاتها، والقضاء - بالتالي - على حضارتها الإسلامية، ورسالتها الإنسانية، لتصبح - كلا مهملاً، أو كياناً مهلهلاً.

ولذلك فإن للثالوث المعادي للأمة; حرصاً شديداً على إنجاح هذا الغزو الثقافي، لأنه يوفر له أنسب الأجواء; ليعيث فساداً في بلادنا كما يشاء. ولأنه يحقق له الأهداف الشيطانية; التي يتشوف إليها من الممارسات والتحديات الأخرى.

وكان من نتائج هذا الغزو; أن انتشرت بيننا صراعات الأفكار الدخيلة; والمبادئ المستوردة. وأصبح أبناء الأمة ألواناً متباينة من الأفكار والمعتقدات، التي تفعل بالامة ما يفعله الشياطين، فتفرق بين الأخ وأخيه، بل وتفرق بين المرء وزوجه. فهذا شيوعي; وهذا علماني; وهذا ماسوني; وهذا لا ديني; وهكذا.

وحتى عبادة الشيطان; وجدت لها في عالمنا الإسلامي مجالاً، وكان هذا - في بلادنا - يعتبر أمراً محالاً ومن أعجب ما قرأت في ذلك من الأخبار; ما أوردته صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية في عددها الصادر بتاريخ 8/9/1998م تحت عنوان: «القبض على مجموعة من عبدة الشيطان في تركيا».

ولقد أخذ الغزو الثقافي مجاله في عالمنا الإسلامي; عبر ما يُنشأ بيننا لأولئك الدخلاء; من نواد ثقافية، أو مراكز للدراسات، أو معاهد للأبحاث، وغير ذلك. غير أن أخطر ما يشيع الغزو الثقافي من خلاله; هو ما تقدمه وسائل الإعلام من السموم.

وقد نبه إلى ذلك كثيراً - علماء الأمة ومصلحوها. قال الشيخ محمد الغزالي (قدس سره)في كتابه (قذائف الحق ص 230): «كل ما قدمناه إنما يُدعم بالأجهزة الإعلامية الطاهرة النقية، أما إذا بقي الحال على ماهو عليه; في الصحافة والإذاعة والتلفزيون; وغيرها من وسائل الإعلام; فالجهد ضائع. لأن ما يُبنى هنا; تهدمه هذه الوسائل هناك». ولكن الأمة لا تسمع ذلك ولا تعيه. وصدق الذي قال فينا:«إن قارئ اليوم اعتاد أن يطلب القشور، ويعلق من السطح، فلم يعد يغوص في أعماق البحار، ويتسلخ بالأصول، وهو ما ينبغي له أن يفعل» (كيف تنمي قدرتك على اتخاذ القرار - ص ا، ب من مقدمة المترجم).

وما لم تتنبه الأمة إلى ألغام هذا الغزو الثقافي فتبطل مفعولها; وإلى جيوشه فتوقف زحفها; وإلى سمومه فتنبه أبناءها إلى أخطارها، فستسري هذه السموم في مختلف أقطارها. وحينئذ سندخل القرن القادم; ونحن نعض على أصابعنا من الحسرة والندم; حيث لا تنفع الحسرة ولا يجدي الندم.

وصدق الأستاذ / سيد قطب (رحمه الله) حين قال: «إنهما طبيعتان.. طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء; وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء. وإنهما خطتان.. خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون; وخطة الاستقامة والبذل والكرامة»([11]).

 

 وللأمة الإسلامية - في أيامنا هذه - أن تختار بين الطبيعتين ; وبين الخطتين. بل عليها أن تختار بين حالتها الراهنة; من الضعف والاستكانة والخور والهوان; والوقوف في ذيل الأمم في هذا الزمان.. وبين اختيار اللّه لها بقوله جل شأنه: (كُنتم خير أمة أُخرجت للنّاس. تأمرون بالمعروف وتنهونَ عن المُنكر وتؤمنون باللّه) ([12]).

الفصل الثالث - ومضات مضيئة في الأجواء القاتمة

المبحث الأول - انتصار الثورة الاسلامية في ايران:

 كان الإسلاميون جماعات متفرقة في العالم العربي والإسلامي، بل إنهم كانوا جماعات متفرقة في كل قطر من أقطارهم. لا تربطهم أمنية; ولا يوحدهم هدف، مع أنهم يزعمون أن هدفهم واحد; وأن أمنيتهم واحدة وأنهم يصبون إلى إقامة حكم اللّه في البلاد; وتطبيق شرع اللّه على العباد.

وطال الأمر وهم كذلك، لا تتحقق غاية; ولا ترفرف لهم راية; حتى بعث اللّه الإمام الراحل - آية اللّه الخميني(رحمه الله). فانتهج - منذ أن نطق لسانه بالدعوة إلى الإسلام العظيم، وبدأ بيانه في توضيح شرعه الحكيم - انتهج منهجاً متميزاً; واختط خطة فريدة. وذلك أنه لم يقتصر - كغيره من علماء المسلمين - على الوعظ والإرشاد رغم أهميتهما العظمى; ولكنه أضاف إليهما - ومنذ اللحظة الأولى - دعوة المسلمين إلى رص الصفوف; والتصاق الكتوف. كما دعا إلى نبذ الخلاف; وترسيخ الائتلاف.

ولقد مكنه اللّه من ذلك; بما وهبه من مواهب متميزات; كالقيادة الفذة، والعلم الشامل، والفقه العميق، والخبرة والواسعة والنظرة الثاقبة، إلى جانب الشخصية القوية، والذكاء النادر، والتواضع الجم، وما إلى ذلك من مؤهلات سياسة الأمم; وقيادة الجماهير.

وظل الإمام - (رحمه الله) سنوات طويلة; يبشر الناس بمنهجه، ويدعو الأمة إلى طريقته; حتى كان من نتاج ذلك; أن أشرقت في إيران أنوار ثورة إسلامية شعبية، التفت حولها الجماهير; رغم ما واجهها من العواصف والأعاصير.

 هذه الثورة التي فجرها الشعب لا بالسيوف ولا بالخناجر ; ولكن باحتجاجات الأصوات وهتافات الحناجر - تهاوت أمامها أركان نظام الشاه، وهي تزحف ضد الفساد في كل اتجاه. وانصهر في بوتقتها الناس كل الناس، وسبح في تيارها المجتمع كل المجتمع.

وقد صور ذلك أحد الكتاب المغاربة بـإيجاز حين قال: «لم تكن الثورة الإسلامية انقلاباً عسكرياً، ولا انتفاضة شعبية عفوية، أو ثورة نخبة أو طائفة، أو إيعازاً من الخارج، ولكنها كانت ثورة جماهيرية واسعة، شملت الأبعاد الأفقية والعمودية للمجتمع»([13]).

وما كان ذلك ليحدث لولا أن أراد اللّه; فهيأ الإمام القائد لأن يوجه الجماهير بأحاديثه ومحاضراته ووعظه وإرشاداته; مضمناً إياها هدفه السامي الذي يسعى إليه، ومن ذلك قوله: «يا جموع المسلمين; هاهو (ذا) الإسلام العزيز يستنجد بكم أينما كنتم، وعلى الجميع السعي إلى تلبية دعوته، للتعويض عما لحق به على يد سلاطين الظلم، خاصة خلال الخمسين عاما الماضية; من الحكم البهلوي المعادي للإسلام والشعب»([14]).

وفي موضع آخر من هذا النداء يقول الإمام(رحمه الله): «على الجميع بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم; أن يعلموا أن النصر مستحيل; إلا بالاعتماد على الإسلام، والاستظلال براية التوحيد والقرآن»([15]).

ووضعنا أيدينا على قلوبنا في تلك الأيام، حتى لا تقفز من الفرحة إلى خارج الأجسام، فقد تحققت للمسلمين الغاية، ورفرفت لهم أخيراً هذه الراية. وسهرنا - نحن المسلمين - في كل مكان; نتابع انتصارات تلك الثورة وانجازاتها في كل ميدان.

وذلك أن الإمام (رحمه الله)، اعتبر انتصار الثورة هو المرحلة الأولى من مراحل هذا الكفاح المرير، وذلك في خطبته التاريخية أمام الجماهير المليونية التي خفَّت لاستقباله التاريخي في مطار طهران في الثاني والعشرين من يناير / كانون الثاني سنة 1979م، وفي تلك الخطبة يقول الإمام(رحمه الله): «إنني أقدم شكري هنا لجميع فئات الشعب الأبي وشرائحه، من جامعيين وتجار وكسبة، وطلاب وأساتذة جامعات، وقضاة ومحامين وموظفين وعمال وفلاحين. فقد بذلتم ما استطعتم، وانتصرتم بوحدتكم، وهذا النصر هو المرحلة الأولى([16]).

وهكذا بدأ البناء في مختلف الميادين، حتى بلغ شأناً عظيماً. وهاهي ذي الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم; تمثل دولة إسلامية ترتجف عند ذكر اسمها فرائص الأعداء، وتطرب لسماع صوتها قلوب الأحباء والأصدقاء والمسلمين في جميع الأنحاء.

لأن الأعداء - بما يغشى نفوسهم ضد المسلمين من حقد وانحياز - لا يستسيغون أن يروا في أي قطر من أقطارنا - مثل هذا الإنجاز.

أما الأحباء والأصدقاء والأشقاء; فينظرون إلى إنجازات الثورة الإسلامية في إيران - بـإعجاب شديد، ويتمنون على اللّه أن يروا منها المزيد.

ولا يتسع المجال هنا للحديث عن هذه الإنجازات; فانتصار الثورة هو المقصود بهذا المبحث، أما نجاحها في التربية والميدان الثقافي، ونجاحها في البناء الإنساني والأخلاقي، ونجاحها في ترسيخ أفكار الوحدة بين أبناء العالم الإسلامي، بل ونجاحها في الميدان السياسي والاقتصادي والصناعي والتجاري والفني والعلمي وغيرها، ونجاحها في إعداد جيش قوي يحمي حدود البلاد من الاعداء، ويكون قوة ضاربة للأمة الإسلامية جمعاء.. فهذه موضوعات نستنذكرها هنا للاستمتاع والاستبشار، لا للغوص في تفصيلاتها، لأن ذلك يحتاج إلى الموسوعات الكبار.

وأخيراً; فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران - هو من الومضات المضيئة في الأجواء القاتمة، والغيوم المتراكمة، التي تتلبد بها سماء الأمة الإسلامية، وهي تودع القرن الميلادي العشرين; وتستعد لاستقبال القرن الحادي والعشرين.

عسى أن يكون انتصار هذه الثورة في هذا القرن; مبشراً بانتصار ثورات إسلامية في أقطار أخرى; في القرن القادم بـإذن اللّه.

المبحث الثاني - انتصار الثورة الإسلامية في السودان:

 كان السودان قبل أن يتداركه اللّه بثورة الإنقاذ الإسلامية; في نهاية شهر يونيو / حزيران 1989م; مسرحاً لاستبداد رؤسائه، وتناحر أبنائه. وكان الإسلاميون بزعامة الشيخ الدكتور/ حسن عبد اللّه الترابي - يراقبون هذا الاستبداد وذلك التناحر; بمزيد من الحرقة والأسى. لأن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية; لم تكن تساعدهم على بدء الإصلاحات التي كانوا ينوونها للبلاد.

فتناحر زعماء الأحزاب على كراسي الحكم; والحالة الاقتصادية المتردية; والانقلابات العسكرية المتوالية; كانت تحز في نفوس الإسلاميين، فتزيدهم استعجالاً في التربية في صفوف الشعب ; والتغلغل في صفوف الجيش والشرطة; والمزيد من ضم العناصر الوطنية; وتدريب العناصر الأمنية.

وبوعي غير مسبوق في الحركات الإسلامية المعاصرة; أخفى الإسلاميون السودانيون نواياهم لأكثر من ثلاثين عاماً. وعملوا في صمت تام، وبحرص شديد، وسط تلك الأمواج المتلاطمة من المناحرات السياسية; والانقلابات العسكرية.

ولما كان السودان هو المفتاح الحقيقي للقارة الإفريقية; فقد لعبت المخابرات العالمية بشكل عام; والأمريكية منها بوجه خاص - على إبقائه في جوّ من تصارع الأفكار والمبادئ غير الإسلامية من ناحية ; وفي جو من تناحر الأحزاب السياسية، وتوالي الانقلابات العسكرية من ناحية أخرى.

وكان كل هذا يجري; والمسلمون يربّون ويدرّبون، ويعدّون ويستعدون، وعين اللّه - سبحانه - ترقبهم وترعاهم ; وتهديهم وتسدد خطاهم. كما كان قدر اللّه - جل شأنه - يحميهم من بطش الأحزاب الفكرية، التي كانت تنفث سمومها في البلاد.

ومن بين هذه الأحزاب التي كانت تنخر في السودان ; كنخر السوس في الأخشاب; كان الحزب الشيوعي السوداني; الذي كان من أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم. وذلك بما توفر له من دقة في التنظيم، وقدرة على اقتناص الفرص; واستيعاب العناصر، إلى جانب الأجواء الاجتماعية التي يسودها الفقر والحاجة، وهي الأجواء التي تنمو فيها الأفكار الشيوعية الانتهازية.

وفي المقابل كان الإسلاميون; وقد هيأ اللّه لقيادتهم رجلاً (كالشيخ حسن الترابي)، ووهبه من مؤهلات القيادة ما جمع حوله جمهرة من كرام القوم ومثقفيهم ; ومخلصيهم ومؤهليهم. وكل منهم يحاول أن يتمثل بمرشده وقائده في عمله الصامت الدءوب، ويبذل قصارى جهده لنشر دعوته وإنجاح ثورته.

والشيخ حسن الترابي - وبحكم معرفتي الشخصية به; ومرافقتي الطويلة له - رجل ذو شخصية قوية ومتواضعة، وذو علم واسع ومتشعب، وذو فقه عميق ومتطور، وذو ورع وزهد وتقوى; تستجلب حوله مختلف الاتجاهات، وتجعله نموذجاً تعشقه وتستجيب لدعوته الجماهير. أضف إلى ذلك ما يمتاز به الرجل; من قدرة على الإقناع، ودراية بطبيعة المرحلة، وحنكة جعلت ألد أعدائه فكرياً; أصدقاء له شخصياً. كما جعلت أرفع الرتب العسكرية في الجيش أو الشرطة; تسعد بطاعته، وتستعد لنصرته.

ومضى الشيخ وثلة من إخوانه; ينظّرون للجبهة القومية الإسلامية في السودان، ومضت الجماهير الشعبية تنضوي تحت لوائها.. من الرجال والنساء، ومن الأساتذة والطلاب، ومن الشيوخ والشباب، ومن المثقفين والمزارعين والعمال، ومن التجار والصنّاع والمهندسين والأطباء، ومن ضباط الجيش والشرطة ورجال الأمن وغيرهم.

ومما ساعد الشيخ الترابي على التميز في دعوته، والنجاح في مسيرته; انتماؤه إلى سلك القضاء، ومعرفته بالأنظمة والقوانين، وتقلده لعدد من المناصب; التي كان من أبرزها عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم في فترة من الفترات([17]).

بل إنه من أجل أهدافه السامية; لم يكن يأنف لجبهة الميثاق التي كان أحد البارزين في قيادتها - أن تتحالف مع أي من الأحزاب الأخرى; التي انتشرت في السودان - بشكل واسع - عقب الحرب العالمية الأولى - مادامت مصلحة البلاد هي العليا([18]).

ثم تسارعت الأحداث، وفي واحدة من ثورات الجيش; ارتحل عن البلاد آخر المستبدين فيها. (وهو الفريق جعفر نميري)، وتسلم رئاسة الجمهورية المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي أفسح المجال - بصورة سليمة فريدة - لحكومة مدنية.

ولكن هذه الحكومة; غرقت فيما كانت تغرق فيه الحكومات السابقة; من الانجراف مع الفساد، وعدم الاهتمام بمصلحة البلاد. وهنا انفجرت ثورة الإنقاذ الإسلامية; بقيادة الفريق عمر أحمد حسن البشير - أحد أبرز قيادات الجبهة القومية الإسلامية - والذي قاد سفينة البلاد - عبر السنوات العشر الماضية - إلى شواطئ النجاة في مختلف الميادين، رغم تلاطم الأمواج وكثرة المتآمرين.

ووجد الإسلاميون (بزعامة الشيخ الترابي) الفرصة مواتية لإعلان أهداف ثورتهم هذه، وأبرزها إنقاذ الشعب السوداني من التأخر والشقاء، والدفع به إلى ميادين التقدم والبناء، في جوّ من صون الكرامة، وإطلاق الحرية، وعدم إراقة الدماء.

ولذلك فقد تسابق الناس - على اختلاف توجهاتهم السياسية; وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية - لتأييد هذه الثورة; والانضواء تحت لوائها، لقناعتهم التامة بصدق ندائها وتميز أدائها.

وتوجهت أنظار العالم - كل العالم - إلى السودان. وأخذت تراقب هذا الغرس المتميز في طعمه ولونه وتنظر إلى هذه الحكومة الجديدة; التي تنادي بما لم تكن تنادي به سابقاتها من الحكومات، والتي تمارس غير ما كانت تمارسه سابقاتها من الثورات.

فإصلاح الفساد; والدفاع عن البلاد، وإرساء العدل والمساواة والحرية; وتنمية الموارد الاقتصادية، وتشجيع العلم والعلماء; وفتح الجامعات في مختلف الأنحاء، ونبذ الخلاف والاختلاف بين الأشقاء والأصدقاء أجمعين; والدعوة إلى تنشيط الأخوة وتقوية الصلات بين العرب والمسلمين.

ثم نشر الوعي الديني ونبذ الخلافات المذهبية; تمهيداً لقيام الوحدة الإسلامية. ثم المشاركة الفعالة مع العرب والمسلمين في حل قضاياهم الآنية والمصيرية; والوقوف معهم صفاً واحداً أمام التحديات الأجنبية; والمؤامرات العدوانية. كل ذلك وكثير غيره; كان مدعاة لأن تتوجه أنظار كل العالم إلى السودان.

أما المخلصون من العرب والمسلين; فقد كانت نفوسهم تهتز من السعادة والفرح والسرور; وهم يرون فجراً في قطر من أقطارهم قد أشرق، وأملا من آمالهم قد تحقق. فإذا كانت عناية اللّه - سبحانه - قد أدركت المسلمين في آسيا; ففجرت لهم الثورة الإسلامية في إيران; فها ذي عناية اللّه - جل شأنه - تدرك المسلمين في أفريقيا; فتفجر لهم ثورة الإنقاذ الإسلامية في السودان.

وأما الملوك والرؤساء; فقد وضعوا أيديهم على قلوبهم; خشية أن يتكرر ذلك بين شعوبهم. فتعاملوا مع النظام الجديد بحذر شديد.

وأما الأعداء والمتربصون; والصهاينة والصليبيون; فقد ذهلوا لما جرى في تلك البلاد; واستيقظت في نفوسهم الأحقاد. وأخذوا يحيكون ضد السودان المؤامرات ; ويمارسون معه أخسَّ الممارسات، والتي كان آخرها الاعتداء الأمريكي المشؤوم; على مصنع الدواء في الخرطوم.

ومن خير ما يلخص الحديث عن ذلك الهجوم الصفيق; كلمات في مقدمة كتيب عن القصف الأمريكي لمصنع الشفاء قال كاتبها: «لقد قامت الإدارة الأمريكية بهذا العدوان على السودان; بدون مسوغات قانونية أو أخلاقية.. الأمر الذي يمثل استهتاراً خطراً بكل القيم الحضارية، واستهانة بمعاني الإنسانية وخرقاً صريحاً وفاضحاً للأعراف والقوانين الدولية».

ولكن ثورة الإنقاذ الإسلامية في السودان ; لم تعد تعبأ بهذه المممارسات الهمجية من أعداء الأمة الإسلامية، ومضت ترسي مرتكزاتها المختلفة; بخطى ثابتة; وعزائم شديدة، وهمم قوية. ومن أهم هذه المرتكزات على الصعيد الداخلي، كفالة الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين - مسلمين وغير مسلمين - وذلك بحسب ماورد في المواد (11،20،21،24،25) وغيرها من دستور البلاد.

أما على المستوى الخارجي - وكما جاء في بيان وزارة الخارجية - فأهم المرتكزات هي: «احترام الحقوق والحريات والفضائل للناس جميعا، والدعوة لحوار المذاهب والحضارات، وتبادل المنافع والمعارف والخبرات، على أساس العدل والخير لنا وللآخرين «انظر مرتكزات وأهداف سياسة السودان الخارجية، ووسائل تحقيقها - بيان وزارة العلاقات الخارجية ص5،6).

ومما يجدر ذكره هنا أيضاً; تبشير ثورة الإنقاذ الإسلامية في السودان; بالوحدة الإسلامية، وجعلها من أهم أهدافها. قال الشيخ حسن الترابي; في إحدى محاضراته بالخرطوم; في شهر نوفمبر 1992م، بأن الحركة الإسلامية يجب أن تتجاوز أطر القومية والعرقية والطائفية الضيقة; وتعمل على توحيد الأمة الإسلامية([19]).

وأخيراً; فإن انتصار الثورة الإسلامية في السودان; قد حقق للشعب السوداني أمنيات غاليات كان يتطلع إليها; وقرّب من الأمة الإسلامية آمالاً تبني مستقبلها عليها.

ثم إن هذه الثورة ; تعتبر واحدة من الومضات المضيئة في الأجواء العربية والإسلامية; التي تعكرها التحديات الكثيرة التي تواجه الأمة الإسلامية; وهي تستقبل القرن الميلادي القادم.

المبحث الثالث - حماس الفلسطينية، وحزب اللّه اللبناني:

ومن النقاط المضيئة الأخرى; حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين، و(حزب اللّه) الإسلامي في لبنان. وهما حركتان متشابهتان بل متطابقتان في أغلب الأمور إن لم يكن في مجملها.

فكلتاهما نشأت من رحم هذه الأمة، وهي تحمل همومها، وتطمع أن تزيل غيومها. وهي أيضاً تدافع عن وجودها، وتقوي من صمودها.

وكلتاهما نشأت في العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي. فقد نشأ (حزب اللّه) عقب الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982م. ونشأت (حماس) مع انفجار الانتفاضة الشعبية في فلسطين سنة 1987م، وبالتحديد في 4/12/1987م; كما جاء في بيانها الجماهيري الذي وزع في قطاع غزة بفلسطين في ذلك التاريخ (انظر - حماس - المسيرة المباركة - من إصدارات مجلة فلسطين المسلمة).

وكلتا الحركتين تعمل - عسكرياً وسياسياً - على مقاومة الاحتلال الصهيوني; بهدف طرده من فلسطين ومن جنوبي لبنان.

كتب (حزب اللّه) في التعريف بنفسه; على الصفحة الخاصة به في (الإنترنت) مانصه:

 Hizbollah is an islamic freedom fighting movement founded due to the Israeli military seizure of Lebanon in 1982, Which resulted in an immediate frmation of the Islamic resestance units for the liberation of the occupied teritories and for the ejection of the aggressive Israelis forces.

 ومعنى ذلك: «حزب اللّه هو حركة مقاتلة من أجل الحرية، وقد وجدت هذه الحركة بعد الاجتياح العسكري الإسرائيلي للبنان سنة 1982م، والذي نتج عنه في الحال قيام مجموعات المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة، وطرد القوات الإسرائيلية المعتدية».

 أما (حماس) فقد كتبت في المادة السادسة من ميثاقها ما نصه: «حركة المقاومة الإسلامية، حركة فلسطينية متميزة، تعطي ولاءها للّه، وتتخذ من الإسلام منهج حياة، وتعمل على رفع راية اللّه على كل شبر من فلسطين»([20]).

 أما النشأة فقد حددها الشيخ أحمد ياسين - الأب الروحي للحركة - في رده على سؤال للتلفزيون الإسرائيلي مساء يوم 23/9/1989م، وهو: متى نشأت حماس؟ فقال الشيخ: «في بداية الانتفاضة - في ديسمبر 1987م([21]).

 وكذلك في رده على سؤال آخر هو: كم جناح كان في الحركة؟ فقال الشيخ: «حماس حركة سياسية. أما الجناحان العسكري والأمني; فقد تم إنشاؤهما قبل الانتفاضة. ولكن حماس شيء جديد»([22]).

ومن ذلك يتبين بوضوح ; أن الهدف الأساسي للحركتين واحدٌ; وهو مقاومة الصهاينة المعتدين; وطردهم من الجنوب اللبناني ومن فلسطين. ولكنهما يتميزان عن غيرهما من فصائل المقاومة الأخرى; بأنهما يحملان مشروعاً حضارياً إسلامياً يقوم في المنطقة، ويكون نواةً لوحدة إسلامية شاملة.

 ولذلك يصر كل منهما في أدبياته وإصداراته وبياناته; على الوحدة الوطنية، وعدم الدخول في صراعات جانبية لا تخدم الهدف الأساسي لكل منهما، أو تضعيف صف المقاومين أمام المحتلين.

 كما أن لدى كل منهما من الوعي بأبعاد الصراع مع الصهاينة وحلفائهم من الصليبيين، ما يدفع كلاً من الحركتين; على تقديم مثال للمقاومة الإسلامية، بما تشمله من حب الجهاد والاستشهاد، ضد الغزاة الذين يستهدفون وجود الأمة من الأساس. قال (حزب اللّه) في صفحته على (الانترنت):

 We are anxious to offer a model of perfornance in strugglin targetin the enemy that represents a challenge for the existence of the whole nation along with its regimes and people.

ومعنى ذلك باختصار: «نحن مهتمون بتقديم مثال عملي; في مقاومة العدو; الذي يمثل تحدياً لوجود الأمة بكاملها; بما فيها الأنظمة والشعوب».

أما حركة (حماس) فقد قالت في المادة الثالثة من ميثاقها (ص 8): «تتكون البنية الأساسية لحركة المقاومة الإسلامية; من مسلمين أعطوا ولاءهم للّه، فعبدوه حق عبادته.. ورفعوا راية الجهاد في وجه الطغاة لتخليص البلاد والعباد من دنسهم وأرجاسهم وشرورهم».

وقد صدقت الحركتان في بذل أقصى مافي وسعهما من تضحيات لمقاومة الأعداء، ومن تقديم كواكب المعتقلين والشهداء، والمهندس (يحيا عياش) (رحمه الله) قائد كتائب عز الدين القسام; الجناح العسكري لحركة (حماس)، إلى جانب عدد كبير من خيرة أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني.

أما المعتقلون في سجون الاحتلال وعملائه; فهم آلاف من الشيوخ والشباب، كان على رأسهم - إلى وقت قريب - رمز المجاهدين في فلسطين الشيخ (أحمد ياسين) حفظه اللّه ورعاه.

على أن استشهاد أولئك الرجال; واعتقال هؤلاء الأبطال; هو الذي يعطي المقاومة حماسها المتجدد; ووقودها المستمر، فلا تنام عيون جنود الاحتلال، ولا يهدأ لهم - بحمد اللّه - بال.

وهكذا تكون الحركتان المباركتان; حماس الفلسطينية، وحزب اللّه في لبنان ; من الومضات المضيئة في أجواء أمتنا، وهي تودع قرنا وتستقبل قرناً آخر من الزمان.

المبحث الرابع - اليقظة العربية، والصحوة الإسلامية

 يظهر أن العرب والمسلمين - بعد هذه السنوات الطوال من النوم العميق - قد بدءوا يستيقظون. وهو استيقاظ محبوب ومطلوب; لتحقق الأمة أهدافها ومآربها، قبل أن تجتاح الأعاصير مضاربها. والحقيقة أن دعاة الأمة لم يملوا من توجيه صيحاتهم على كل صعيد وفي كل اتجاه، على أمل أن يحدث هذا الذي نراه.

فعلى الصعيد العربي; كتب أحدهم في صحيفة الرأي الأردنية اليومية (عدد 6/9/1998م) يقول: «سألني: كيف ترى حال الأمة في القرن القادم؟ قلت: إذا لم نبادر إلى تغيير أوضاعنا بمجملها; ووضع خطواتنا الصحيحة على الطريق الصحيح; والخروج من هذا التيه الذي يلفنا جميعاً: فإن القرن القادم سوف يستقبلنا ببدلاتنا السمو كن السوداء; وربطات أعناقنا الصغيرة - البابيون - ليزرعنا حول الموائد نقدم الطعام والشراب للجالسين حولها; وحين ينتهي الساهرون من طعامهم; نزدرد نحن بقايا الطعام، ثم ننظف الصحون ونرتب المكان ونكنس الأرض، ونذهب بعد ذلك لننام ملء جفوننا».

وكتب آخر في صحيفة الثورة السورية اليومية (عدد 18/3/1999م) يقول: «تواجه الأمة العربية هذه الأيام; صعوبات كبيرة في التعاطي مع الأوضاع الإقليمية الراهنة، وفي التعامل مع الاستحقاقات الدولية القريبة منها والبعيدة، نتيجة ما تعانيه من حالة الوهن والضعف والانقسام والصراعات; التي باتت تهدد حاضر ومستقبل العرب جميعاً في مشرق الوطن الكبير أو في مغربه».

وكتب آخر في مجلة الأسبوع العربي (عدد 10 أغسطس / آب 1998م) يقول: «سئم العرب عموماً الخلافات; إلى درجة أن أمنية الناس العاديين; باتت: الوفاق».

وكتب الدكتور أنيس صايغ في مؤلفه (نصف قرن من الأوهام - ص 6) يقول: «الحقيقة التي ندرك ونعيش (وربما نتعايش معها) أن فلسطين ضاعت... لكن هناك حقيقة مقابلة; وهي أن الانتصار على العدو ليس مستحيلاً، وأن إمكانات الأمة تكفي لاسترجاع الأرض وعودة الشعب وممارسة الحق».

وأما على الصعيد الإسلامي; فإن الكلام أقل; ولكن التركيز أكثر، والتوجيه أعم، والبعد أعمق، والمعالجة أدق، والتأثير أشد، والاستنهاض أقوى. قال الإمام آية اللّه الخميني(رحمه الله) في إحدى خطبه الجماهيرية: «إن هناك الكثير من الحقائق التي يجب أن تقال; وهي أكثر مما تتصورون; فبلادنا وإسلامنا معرضان للخطر»([23]).

وقال الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا (رحمه الله): «ستقوم إسرائيل; وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام; كما أبطل ماقبلها»([24]).

وقال الشيخ أمجد الزهاوي - (رحمه الله): «إن العالم الإسلامي يحترق، وعلى كل منا أن يصب ولو قليلاً من الماء، ليطفئ ما يستطيع أن يطفئه دون أن ينتظر غيره»([25]).

وقال الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله): «لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة، اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانباً; ثم أهمس إلى نفسي: هناك خطوة تسبق كل هذا; خطوة لا غنى عنها أبداً; هي أن يدخل المسلمون في الإسلام»([26]).

وكان لهذه النداءات والتوجيهات; الأثر العميق في إيقاظ حسِّ الأمة - عربية وإسلامية، ودفعها إلى مراجعة مواقفها، ونبذ خلافاتها، والتنبه إلى مؤامرات أعدائها.

ومن أبرز ما تنبهت إليه ضرورة الوحدة، فهي العامل الأكبر للنصر. قال الإمام الخميني(رحمه الله) ; في أحد توجيهاته للجماهير المسلمة: «علينا جميعاً أن نعي أن الوحدة هي العامل الأكبر للنصر»([27]).

وتنبهت الأمة - كذلك - إلى أن القدس هي جوهرة إسلامية غالية، لا يجوز التفريط فيها. ثم إن استنقاذها يعني استنقاذ المسجد الأقصى المبارك، قبلة المسلمين الأولى; ومسرى رسولهم(صلى الله عليه وآله) بل يعني استنقاذ كل شبر في فلسطين. وإن في التنبه العربي والإسلامي لأخطار تهويد القدس، وأخطار استمرار احتلالها - ما يبشر بالتوجه الجديد والنصر الأكيد. نشرت مجلة الأمان اللبنانية الأسبوعية (عدد 12/3/199م) تقريراً جاءها من فلسطين المحتلة بعنوان «الانتهكات الإسرائيلية في القدس ; آخذة في التصاعد».

كما نشرت اللجنة العليا للاحتفالات بيوم القدس العالمي لسنة 1999م - أقوالاً لعدد من قادة العالم الإسلامي، تُذكر الأمة بواجبها المقدّس، تجاه تلك البقاع المقدسة. قال الإمام آية اللّه الخميني(رحمه الله) عن يوم القدس العالمي: «إنه اليوم الذي يجب أن ننهض وتنهضوا فيه لإنقاذ القدس». وقال آية اللّه الخامنئي - حفظه اللّه - منوهاً بالكيان الصهيوني الدخيل: «يوم القدس يوم التعبئة المستمرة للجماهير، لإزالة هذه البقعة السوداء من خارطة العالم الإسلامي». وقال الشيخ أحمد ياسين; الأب الروحي لحركة المقاومة الإسلامية حماس;(رحمه الله): «القدس معيار قوتنا وضعفنا، وهاهي القدس أمامنا، تشهد على ما نحن فيه» وأخيراً قال الشيخ راشد الغنوشي - رئيس حركة النهضة الإسلامية بتونس -(رحمه الله): «القدس آية من الكتاب، فمن ضيّعها فقد ضيّع الكتاب».

إن اليقظة العربية; والصحوة الإسلامية; هما من الومضات المضيئة في أجوائنا القاتمة، وهما المبشران بما ستشهده أوطاننا من تطورات وانتصارات في مختلف الميادين، في القرن الميلادي القادم بـإذن رب العالمين.

المبحث الخامس - المستقبل لهذا الدين:

إن البشارات بنصر اللّه لهذا الدين; ومنّه على المسلمين بالتأييد والتمكين; بشارات كثيرة - والحمد للّه. ولكنّ هناك شروطاً يجب أن تتحقق في الفرد وفي الأمة كليهما; لكي تتحقق تلك البشارات.

وأول هذه الشروط وأهمها; التزام المنهج الإسلامي اعتقاداً وسلوكاً وتطبيقاً في الحياة للخاصة والعامة. فعلى المستوى الفردي; يجب على المسلم أن يعبد اللّه كأنه يراه; فإن لم يكن ; فإن اللّه يراه. وهذا يعني أن تكون العبادة صادقة وخالصة، لأنها تحت المراقبة الربانية. قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «والإنسان لا يستطيع أن يصوغ حياته بهذه الكيفية; إلا إذا كان المجتمع الذي يعيش فيه منظما بكيفية تسهل عليه هذه الصياغة»([28]).

إذن يتعين أن يكون من لوازم هذه العبادة الفردية; أن يكون الفرد المسلم تحت تصرف الأمة الإسلامية في تنفيذ واجباتها تجاه المنهج الرباني. تلك الواجبات التي تتمثل في أمور كثيرة، ولكنها ليست عسيرة، ولا مستعصية التنفيذ. وهي - إن نفذت كما يحب اللّه ورسوله - أصبحت الأمة حريّة بنصر اللّه الذي تعهد به في أكثر من موقع في كتابه الكريم.

يقول سبحانه: (وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم) ([29]).

ويقول: (ولينصر اللّه من ينصره، إن اللّه لقوي عزيز) ([30]). ويقول أيضاً: (وكان حقّا علينا نصر المؤمنين)([31]).

ونحن نعتقد أن الأمة الإسلامية في هذه الأيام - لكي تستنزل نصر اللّه المبين - عليها أن تنفذ عدداً من الواجبات. كما نعتقد أنها مقدمة على ذلك - بـإذن اللّه - نتيجة حتمية لهذه الصحوة المباركة التي نلمسها في كل اتجاه.

وأبرز هذه الواجبات بـإيجاز يقتضيه الحال:

1- نبذ الخلافات بين حكامها; ووقف تدهور العلاقات بين شعوبها. والاهتمام بالوحدة بين أقطارها، والتقريب بين مذاهب أبنائها. تطبيقاً لقول اللّه جل شأنه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون اللّه ورسوله، وأولئك سيرحمهم اللّه إن اللّه عزيز حكيم) ([32]).

ويحضرني في هذا المجال قول القائل:

«اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»([33]).

2- التعاون السياسي والاقتصادي والعلمي بين شعوبها ; بهدف الوصول إلى الإكتفاء الذاتي. ومن باب أولى التعاون العسكري بين قادتها. فالأمة مستهدفة الوجود والخيرات والمقدسات، والعسكريون هم الدروع التي تحمي ذلك، وعليهم أن يرصوا صفوفهم ويوحدوا كلمتهم، وينموا وعي جنودهم بقضايا الأمة المصيرية وخاصة في فلسطين، فهم العمق المطلوب لتحريرها. يقول الأستاذ خالد مشعل - رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس): «لايمكن حسم الصراع مع العدو; بمعزل عن العمق العربي والإسلامي»([34]).

3- تفعيل دور المسجد بحيث يصبح مقر تعبد جماعي، ومركز توجيه ديني، ومنارة إشعاع ثقافي وإعلامي. بهدف العمل على تغيير واقعنا الأليم. فالمسجد هو صاحب الدور الأساسي في ذلك، ولكنَّ المسلمين قد عطلوه، واستبدلوا به مراكز توجيه أخرى، ليس لها قوته، ولا تؤدي رسالته.

وصدق الدكتور / عبد الحليم عويس; حين شخَّص ما نعانيه في هذا المضمار بقوله: «فالمشكلة التي يواجهها العرب والمسلمون منذ إدراكهم للهوة الحضارية التي تفصلهم عن العصر; أنهم لم يستطيعوا وضع شروط التفاعل الحضاري; وسنن اللّه في التغيير; موضع تطبيق»([35]).

4- تفعيل دور المرأة والشباب من أبناء الأمة، ومنحهم الفرص الكافية للمشاركة في الحياة العامة. فكم من كفاءات معطلة من هؤلاء وهؤلاء! وإن كان التعطيل في الجانب النسائي أكثر وأخطر. قال أحد كتاب الغرب - مع اختلاف في المنظور بين ما نريده وما يريده: «إن توسيع امتيازات النساء; هو المبدأ العام لكل تقدم اجتماعي»([36]).

5- نشر التعليم والثقافة الدينية والدنيوية بين مختلف طبقات الأمة، وعدم قصرها على أبناء الذوات، أو على القادرين من أبناء الأثرياء.

6- إنشاء نظام تكافل اجتماعي على أسس إسلامية، لتعليم المحتاجين، وإطعام الجائعين، وإغاثة الملهوفين، وإيواء المهجرين والمشردين، ومداواة المرضى من المسلمين.

7- التصدي للإعلام المغرض، والفن الفاسد، والأدب الماجن، وحماية أجيال المسلمين من آثارها الفاجعة; وسمومها الناقعة. قال آية اللّه الخامنئي حفظه اللّه - في كلمة وجهها إلى المؤتمر الذي أقيم بطهران في 25/11/1994م، تكريماً للشاعر الإيراني الشيخ مصلح الدين الشيرازي (رحمه الله)بمناسبة مرور ثمانية قرون على ولادته، قال: «وللآداب والفنون - باعتبارها وسيلة لتبيان أسمى الأفكار الإسلامية - موقع متميز في التاريخ الإسلامي، وينبغي أن يكون لها موقع مماثل اليوم أيضاً»([37]).

8- العمل على إحقاق حقوق الشعوب المسلمة المضطهدة، في كوسوفا وفي كشمير وفي غيرهما، والانتصار للأقليات المسلمة في العالم، والإسهام في رفع الظلم عن المظلومين - مسلمين وغير مسلمين.

9- العمل على تحرير القدس وفلسطين والمسجد الأقصى المبارك، وحماية المقدسات الإسلامية من أي عدوان.

10- نشر العدل والمساواة والحرية، ومختلف الحقوق الإنسانية التي تضمنها الشريعة الإسلامية. وبناء العلاقة بين الحاكمين والمحكومين على أساس من الثقة والتفاهم والمودة والتعاون من خلال القيم الإسلامية.

 

 11- إعداد مراكز للدعوة الإسلامية في العالم، وتأهيل الدعاة المناسبين لها، في ضوء قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالّتي هي أحسن..) ([38]).

 وهذا يقتضي التعايش السلمي; وانتهاج الحوار البناء مع أصحاب المعتقدات غير الإسلامية.

 12- إعلان الجهاد في سبيل اللّه، بهدف الدفاع عن هذه الإنجازات ضد الذين يطعمون في عرقلتها، أو يعملون على منع الأمة من الوصول إليها، وبهدف حماية هذه المكتسبات من الذين يعتدون عليها.. هذا فضلاً عن حماية الأمة ذاتها، وحماية خيراتها ومقدساتها.

واللّه جل شأنه قد تكفل بنصر أمة هذه مواصفاتها الخيّرة، وتلك مسيرتها النيرة.. قال سبحانه: (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ; ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّنن لهم دينهم الّذي ارتضى لهم، وليبدِّلَّنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ([39]).

 متضرعاً إلى اللّه أن يوفق الأمة إلى صالح الأعمال; وأن يحقق لها ما تصبو إليه من آمال. والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

خاتمة المطاف

لك اللّه يا أمة الإسلام والمسلمين! فها أنت ذي تودعين قرناً من الزمان، وتستعدين لاستقبال قرن آخر، ولكن التحديات التي تواجهك تحديات خطيرة، منها الداخلية، ومنها الخارجية، وأنت حيرى بين هذه وتلك. والتاريخ يسطر عليك كل حركة وسكنة; فانظري كيف ستتصرفين، وانظري ماذا ستفعلين.

إن التحديات الداخلية التي تواجهه الأمة الإسلامية; وهي تستقبل القرن الحادي والعشرين الميلادي; تحديات متشعبة. وهي تنخر في جسمها كما ينخر السوس في الأخشاب، وتستصرخ المصلحين من المسؤولين أن يدركوا الأمة قبل أن تقضي هذه التحديات; على ما بقي لها من أمل في الحياة الحرة الكريمة بين الأمم.

ومن هذه التحديات تفرق الآراء، واختلاف المفاهيم بين الأشقاء. ومنها فقدان الثقة بين شعوب الأمة بعضها البعض. ومنها تناحر الجيران، واقتتال العشيرة والإخوان; مع أن النبي(صلى الله عليه وآله)يحذر من ذلك بشدة، فعن ابن عباس رضي اللّه عنهما، أن النبي(صلى الله عليه وآله) خطب الناس يوم النحر في حجة الوداع فكان مما قال: «لا ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»([40]).

 ومن التحديات الداخلية التي تواجه أمتنا كذلك; البطالة والكساد; اللذان يصيبان بالإحباط أبناء البلاد. ومنها الفقر والجوع; اللذان إذا نزلا بأمة من الأمم; يضعف فيها الأقوياء، ويذل الأعزاء. وهاهما ذا يترلان بأمتنا; بالرغم مما تحتفظ به أرضنا من الثروات، وما تخرجه لنا - بإذن اللّه - من الخيرات.

ولذا فإن التعاون الاقتصادي بين أقطار العالم الإسلامي أصبح من الضرورات الملحة، حتى لا ندخل القرن القادم، وموارد بلادنا من المواد الأولية نهب للآخرين، وشعوب أمتنا سوق للصانعين والمنتجين.

ومن التحديات الداخلية أيضاً; ما يجتاح شعوبنا من الخلافات المذهبية، والتحزب والفئوية، والتعصب والطائفية، والقومية والقطرية، وما إلى ذلك مما يثير الخلاف الدائم، ويضعف الهمم ويوهن العزائم كما أن منها البدع والضلالات، والأساطير والخرافات، وغير ذلك من الأوابد الموروثة بجهالة عمياء.

ومنها التخاذل والتثبيط، والتذبذب والنفاق، والوهن والاستكانة، والتآمر والعمالة والخيانة. ومنها معاداة الأشقاء وممالأة الأعداء; بشكل لم تعهده الأمة في تاريخها الطويل.

ومن التحديات الداخلية كذلك; التأخر العلمي والاقتصادي والصناعي والسياسي والعسكري، وما إلى ذلك من الأدواء; التي لا تنهض الأمم إلا إذا وجدت الطريق المناسب للخلاص منها.

أما الاستبداد في الحكم; والفساد الإداري والمالي والخلقي والاجتماعي في كل مجال; وسوء استغلال الأموال العامة; وبعثرة ثروات البلاد; وما يشع في مجتمعاتنا من تبذل وانحلال وفساد; فحدث عن ذلك بلا حرج - كما تشاء.

على أن الأمة ما إن تحاول أن تتخلص من تلك التحديات الداخلية، حتى تصطدم بتحديات خارجية. وهي تحديات من نوع جديد، لا تقل خطورة عما بالأمة من هموم بل تزيد.

فهناك طمع الطامعين، وجشع الجشعين، وتآمر المتآمرين، وحصار المحاصرين، وغير ذلك مما يضيق المجال عن إحصائه أو استقائه.

وذلك حين يطمع في خيراتها وفي ثرواتها وفي مواقعها الطامعون، وحين يتآمر على دولها وعلى شعوبها وعلى اقتصادياتها المتآمرون، وحين ينم بين شعوبها النمّامون، ويحتل أرضها المحتلون، ويدنس مقدساتها الصهاينة والصليبيون، ويحاصرها المحاصرون، ويتحرش بها المتحرشون، ويعتدي عليها المعتدون.

وتجد الأمة نفسها مكبلة اليدين، مطوّقة ومحاصرة، أمام ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، وهو أسوأ نظام عرفه الناس منذ العصور البدائية الأولى. وذلك لأن القطب الوحيد الذي يتحكم في مصائر هذا النظام - وهم الأمريكان - يديرونه بمعايير مزدوجة; لمصالحهم الخاصة، ومصالح حلفائهم، بغض النظر عن مصالح الشعوب الأخرى; العرب منها وغير العرب، وعلى الأخص إذا كانوا مسلمين. وأخطر ما في الأمر; أن يطمئن بعض قادة الأمة وزعمائها; إلى ما يدعوهم إليه الأمريكان، حتى وهم يرون فيه بوادر الطوفان.

ولقد بحّت الأصوات الصادقة; وهي تنذر بهذه الأخطار الداهمة; ولكن دون جدوى. وكأن أبناء أمتنا لا يستمعون ولا يقرءون، وإذا سمعوا أو قرءوا فهم - كما قال أعداؤنا فينا - لا يفهمون ولا يعون، وإذا فهموا فهم لا يعملون.

ومن أخطر ما تتعرض له الأمة من تحديات خارجية; الغزو الثقافي، وذلك عبر ما تبثه وسائل الإعلام من سموم، أو عبر ما ينشئه أعداؤنا في بلادنا من نواد ثقافية، أو مراكز للدراسات أو معاهد للأبحاث.

وللتخلص من هذه التحديات; الداخلية منها والخارجية; لم أجد غير اللّه - جل شأنه - أتضرع إليه بمثل ما تضرع به إليه أمير المؤمنين; الإمام علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) ذات يوم حين قال: «اللهم إليك رفعت الأبصار، وبسطت الأيدي، وأفضت القلوب، ودعت الألسن، وتُحوكم إليك في الأعمال. اللهمَّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين».

نشكو إليك غيبة نبينا; وكثرة عدونا وقلة عددنا; وتظاهر الفتن; وشدة الزّمن. اللهم فأغثنا بفتح تعجله، ونصر تعز به وليك; ولسان حق تظهره.. إله الحق آمين; رب العالمين» ([41]).

 على أن الأمة الإسلامية - والحمد لله - لا تعدم ومضات في أجوائها القاتمة، تلك الومضات التي تعلق عليها - بعد اللّه - الآمال. ومن هذه الومضات الانتصار التاريخي للثورة الإسلامية في إيران. وما نتج عنه من دولة إسلامية يهابها الأعداء، ويطرب لها الأشقاء والأصدقاء.

ومن تلك الومضات كذلك انتصار الثورة الإسلامية في السودان، وما حققت من أمنيات للشعب السوداني، وللأمة جمعاء. ومن الومضات أيضاً هذا الجهاد الفذ الذي تقوم به حماس الفلسطينية وحزب اللّه اللبناني، بما يحيي الآمال الضائعات، ويقرب المسافة من تحرير المقدسات. ومن هذه الومضات كذلك; هذه اليقظة العربية والصحوة الإسلامية التي تكرس الأمل القوي في أن المستقبل لهذا الدين. فهو منهج حياة متكامل من المعتقدات والنظم المختلفة التي تؤهله لذلك ([42]).

مصادر البحث ومراجعه

1- القرآن الكريم

2- الحديث الشريف.

3- أحمد ياسين - أسطورة التحدي، أحمد بن يوسف، المركز العالمي للبحوث والدراسات، واشنطن.

4- الأدب والفن في التصور الإسلامي - المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان.

5- أيام مع ثورة الإنقاذ في السودان - إبراهيم العشماوي - صنعاء - مايو 1993م.

6- البداية والنهاية - للحفاظ ابن كثير (توفي سنة 774هـ) مكتبة المعارف - بيروت.

7- تاريخ إيران السياسي المعاصر - للدكتور سيد جلال الدين المدني - طهران - 1414هـ / 1993م.

8- التاريخ اليهودي العام لصابر طعيمة، دار الجيل بيروت - الطبعة الأولى 1975م.

9- تنبيه الدعاة المعاصرين - عبد المنعم حليمة - دار البيارق - بيروت 1417هـ / 1993م.

10- السودان والتدخل الأجنبي - بابكر عوض اللّه - مطابع صنعاء الحديثة - بلا تاريخ.

11- السيرة الحلبية - لابن برهان الدين الحلبي - المكتبة الإسلامية - بيروت - لبنان.

12- صحيفة - البعث - السورية.

13- صحيفة - الثورة - السورية.

14- صحيفة - الحياة - اللندنية.

15- صحيفة - الدستور - الأردنية.

16- صحيفة - الرأي - الأردنية.

17- صحيفة - الرأي الآخر - السودانية.

18- صحيفة - السفير - اللبنانية اليومية.

19- صحيفة - السياسة - الكويتية.

20- صحيفة - العرب اليوم الاردنية.

21- صحيفة - الوفاق - السودانية.

22- الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية - د. عبد الكريم زيدان - مؤسسة الرسالة بيروت - ط 5 - 90 م.

23- قذائف الحق - للشيخ محمد الغزالي - دار ذات السلاسل - الطبعة الرابعة 1980م.

24- القصف الأمريكي لمصنع الشفاء للدواء - نشرة مصورة من توزيع السفارة السودانية في صنعاء.

25- كيف تنمي قدرتك على اتخاذ القرار - تأليف ألن باركر - ترجمة سامي تيسير سلمان طبعة 1998م.

26- مجلة - الأمان - اللبنانية.

27- مجلة - الأسبوع العربي.

28- مجلة - التاريخ الإسلامي - أبريل 97م - معهد الدراسات الإسلامية والعربية - دلهي الجديدة - بالهند.

29- مجلة - الحوادث - اللبنانية.

30- مجلة - السبيل - الأردنية.

31- مجلة - الوسط - اللندنية.

32- مجلة - الوطن العربي.

33- المستقبل لهذا الدين - سيد قطب - دار الشروق - بيروت - 1394هـ - 1974م.

34- مشروع دستور جمهورية السودان - أبريل 1998م.

35- معركتنا مع اليهود - سيد قطب - دار الشروق بالقاهرة - ط 12 سنة 1413هـ /1993م.

36- المنهج الحركي للسيرة النبوية - منير محمد الغضبان - مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن - ط 98م.

37- موسوعة فقه (الإمام) علي بن أبي طالب - د. محمد رواس قلعه جي - دار النفائس ببيروت - ط 96م.

38- ميثاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) - غزة - أغسطس / آب 19988م.

39- نشرة يوم القدس العالمي لسنة 1999م.

40- نصف قرن من الأوهام - دكتور أنيس صايغ - منشورات فلسطين المسلمة - لندن 1999م.

41- اليهود أعداء اللّه وقتلة الأنبياء - مطبوعات الندوة العالمية للشباب الإسلامي.

الهوامش

([1]).البقرة /103.

([2]).الحجرات/9 .

([3]).رواه الشيخان، والنص للبخاري.

([4]).انظر المنهج الحركي للسيرة النبوية - ج 2 ص 283، 285 - وانظر كذلك غزوة بني قينقاع في السيرة الحلبية ج 2 ص 208.

([5]).البداية والنهاية ج 10 ص 286.

([6]).الأحزاب/59.

([7]).التاريخ اليهودي العام 1/124.

([8]).البداية والنهاية 5/220 .

([9]).انظر التاريخ اليهودي العام 2/193 - 195 .

([10]).انظر التاريخ اليهودي العام 2/196 .

([11]).معركتنا مع اليهود - ص 64 - 65 .

([12]).آل عمران / 110 .

([13]).مجلة - العالم - اللندنية - عدد 6 مارس / آذار 1999م.

([14]).تاريخ إيران السياسي المعاصر - ص 312.

([15]).المصدر السابق ص 312 - 313 .

([16]).المصدر السابق / ص 414.

([17]).انظر كتيب - السودان والتدخل الأجنبي - ص4.

([18]).انظر المصدر السابق ص4.

([19]).انظر كتيب - أيام مع ثورة الإنقاذ في السودان - ص 48، 58 .

([20]).ميثاق حركة المقاومة الإسلامية حماس - ص 9 .

([21]).انظر - أحمد ياسين - أسطورة التحدي - ص 83 .

([22]).انظر - المصدر السابق - ص 84 .

([23]).تاريخ إيران السياسي المعاصر ص 91 .

([24]).ميثاق حركة المقاومة الإسلامية - حماس - ص 3 .

([25]).المصدر السابق ص 3.

([26]).قذائف الحق للشيخ محمد الغزالي ص 208.

([27]).تاريخ إيران السياسي المعاصر ص 415.

([28]).انظر كتاب - الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية - ص 9 - 10.

([29]).آل عمران /126.

([30]).الحج /40.

([31]).الروم /47.

([32]).التوبة / 71 .

([33]).تنبيه الدعاة المعاصرين إلى الأسس والمبادئ التي تعين على وحدة المسلمين - ص 6 .

([34]).مجلة فلسطين المسلمة - عدد مارس 1999م - ذو القعدة 1419هـ .

([35]).انظر - مجلة التاريخ الإسلامي ص 246 .       

([36]).انظر - صحيفة الرأي الآخر السودانية - عدد 9/3/1999م.

([37]).الأدب والفن في التصور الإسلامي ص 108 .

([38]).النحل/125 .

([39]).النور/55.

([40]).صحيح البخاري - كتاب الحج.

([41]).موسوعة فقه - الإمام علي بن أبي طالب - ص 383 - 384 .        

([42]).انظر - المستقبل لهذا الدين - ص 3.